شعار قسم مدونات

حين طٌردت من المسجد!

blogs فتاة تلعب بالمسجد

تتسم بعض الحكايات بطول الأمد، بدايات لا زالت ترفُض وضع النهايات! نبدأ من هُناك، عندما تجاوز عمري عدد أصابع يدي اليمنى، اليوم الذي تمكنت فيه من دخول مسجد شارعنا الجديد ذو الأعمدة العظيمة والمصابيح الوهاجة الرائعة. بعد انتهاء الصلاة كان هناك ترحيب فوري ينتظرني بشكل خاص فما كان من خادمة المسجد إلا أن تقترب مني وتخبرني بنبرة واضحة ومباشرة، أن لا قبول لصلاتي لأسباب أهمها من وجهة نظرها عدم التزامي بالصف، إضافة إلى ثيابي التي لا تتماشى مع الصلاة، وفي النهاية كان هناك دعوة خفية لمغادرة المسجد لكني لم أنتبه لها.

 

وفي غضون ثواني كنت في آخر المسجد أتفقد جدرانه تاركةً المرأة تُحدث حالها، شيء من الجلال أخاذ يُذهب الأذهان جعلني أحاول التسلق لمشاهدة النقوش الذهبية عن كثب، فإذا بيد قوية تلكمني من الخلف وصوت أجهش ينهرني، لم أشعر بجسدي إلا مُلقى به على الأرض وحولي تلتف يدان يضربان فيه بسبب هذه المحاولة اللعينة. ووسط جمع من النساء يسوده الصمت أو ربما ترقب يأخذ الأمر برمته على أنه ضرب من المزاح أو الهزل.. حاولت المرأة إخراجي من المسجد أكثر من مرة، مرة بالكلام ومرات بالدفع، لكني لم أستجب وتماديت في العناد.

 

وعلى مدار أكثر من شهر تردد على المسجد تعرضت فيه للطرد المعنف حوالي سبع مرات بنفس منهجية التصرف، ﻛﺎﻥ ﺑﺈﻣﻜﺎﻥ ﺍﻷﻣﻮﺭ ﺃﻥ ﺗﺆﻭﻝ ﻷﻓﻀﻞ ﻣﻤﺎ ﺁﻟﺖ ﺇﻟﻴﻪ_ﻓﻲ ﻧﻈﺮﻱ_ ﻟﻜﻨّﻬﺎ ﺁﻟﺖ ﺣﻴﺚُ لم أرد أنا، آلت إلى اعتقادٍ دائٍم ملازمٍ وشديد أن هذا البيت ينتمي لخادمة المسجد، تملكه وبالتالي يحق لها استقبال أو طرد من تشاء. بعد توالي مرات الطرد لم أخطو لاحقاً داخل هذا المسجد تحديداً حتى بعد مرور الكثير من السنون ورغم حديث أمي أن هذا البيت ينتمي فقط لله وهو فقط بيت الله وليس بيت أحد.

 

كثيراً ما يؤخذ الدين كواجهة ورمز لتلك المجتمعات التي عادة ما ترفض من لا يماثلها، في الحقيقة لم تقبلني يوماً، طردتني كما طُردت من المسجد سالفاً

لم تقف الأمور عند هذا الحدّ، فالقِصصُ لم تنتهِ بعد، والسّتار لم يُسدل، والمَشاهد لا تبرح تتوالى، فهناك في مجتمع "البحث عن النواقص" الذي ينتقد كل ما لا يماثله.. شخصٌ يصلي جميع صلواته بالمسجد ينتقد شخص يصلي أغلبها في بيته أو عمله، وهذا بدوره ينتقد شخص يصلي فقط صلاة الجمعة في المسجد، والذي بدوره أيضاً ينتقد من لا يصلي في المسجد نهائياً. وندور لنصل إلى إحداهن ترتدي نقاباً أسوداً تنتقد من ترتديه بدون قفازات، والتي بالأساس تنتقد من ترتديه بلون أخر، التي بدورها تنتقد أخري بحجاب ساتر والأخيرة بغير حجاب تنتقد بالفعل تلك النماذج في حياتها وتعتبرها متشددة لدرجة النفور اللاتي يبادلوها الانتقاد أيضاً وهكذا.

 

أصحاب مبدأ "إقحام الدين في أي شيء". هؤلاء ستعرفهم جيداً في وقت الأزمات، وقتما شب حريق أو اندلعت ثورة أو انتشر مرض ستجدهم يدعونك إلى الصلاة والتضرع إلى الله، وفقط باعتباره الحل الأمثل والأوحد. لديهم إمكانية تحوير الآيات وإخضاع الأحاديث وأحياناً الشرع بأكمله بما يتناسب مع أهواءهم وما يضمن لهم رغباتهم ويحقق مرادهم.

 

يليهم بالتبعية المجتمع الذي يُرجع أي أمر في العلم إلى الدين، فالقرآن الكريم نجد فيه تلميحاً للعديد من الحقائق العلمية ليكون دافعاً لطلب العلم ومنطلقاً للبحث والتفكير، لكنه ما كان أبداً كتاباً علمياً ولا مرجعاً لنظريات علمية نعود إليه كلما استعصى علينا حل مشكلات الفيزياء الصعبة، فتفسير النصوص الدينية لإثبات إعجاز القرآن بما يتوافق مع نظريات العلم مجانب للصواب، خاصة وأن نظريات العلم الحديثة قائمة على فرضيات قد يتم دحضها أو تطويرها حسب الحاجة، فما هو صحيح اليوم قد يُكتشف أنه خاطئ في المستقبل وهو ما ينافي النصوص الدينية بشكل واضح.

 

لم أكن أمتلك من معلومات حول الدين سوى القليل مما علمني إياه والدي وأمي وأكدا عليه مراراً، وهو أن الظلم محرم وكبيرة في الدين والعرف والإنسانية.. علماني أن لي رأي حر في الحق حتى على ذات نفسي أو ضد إرادتي البشرية المحبة للزيادة والتملك، علماني أن الحياد أعنف أنواع التدخل وأخطرها وأقل المواقف نزاهة وأكثرها انتهازية علماني أن الحياد فضيلة حينما تكون المعركة بين شر وشر ولكنه رذيلة عندما تكون المعركة بين حق وباطل، الحياد ذكاء حين يكون الصراع بين ظالم وظالم ولكنه جبن وخسة حين يكون بين طرفين.. ظالم ومظلوم، علماني أن لا شيء يستدعي الكذب أو التدليس من أجله وأن الدنيا متغيرة ولا ثابت وحقيقي إلا الله.

 

ورغم صعوبة الوصول لقناعات ناضجة وصحيحة في ذلك العمر، إلا أنني في مرحلة ما عرفت أن الحب يعني: الله وأنه هو _تعالى_ وحده المنبع والمستحق للحب، وأن الدين هو الحق ولكن ليس كل ما يقوله الناس حق وأيضاً ليس كل ما يقوله الناس عن الدين صحيح، عرفت أن هناك عدالة ربانية مُنصفة وربما مُخيفة للبعض حيث أن كل ما تفعله سيُرد وسيَكون حصادك سواء كان في قمة اللطف أو الشر، فأيقنت من أعماق إيماني أن الله أعدل مني وأكثر مني رحمة في حلو الأمور ومرها. كثيراً ما يؤخذ الدين كواجهة ورمز لتلك المجتمعات التي عادة ما ترفض من لا يماثلها، في الحقيقة لم تقبلني يوماً، طردتني كما طُردت من المسجد سالفاً.

 

ستظل مشكلة محتكري الدين هي أكبر مشكلات عالمنا العربي، هؤلاء الذين يظنون أنهم نواب الله في أرضه، قضاة على عباده، وكلاء حصريين للدفاع عن هموم ومشكلات الدين دون غيرهم
ستظل مشكلة محتكري الدين هي أكبر مشكلات عالمنا العربي، هؤلاء الذين يظنون أنهم نواب الله في أرضه، قضاة على عباده، وكلاء حصريين للدفاع عن هموم ومشكلات الدين دون غيرهم
 

في الواقع سواء صارت أعداد المصلين بالفجر كأعدادهم بصلاة الجمعة أو كأعدادهم بالحرم المكي، وسواء كانت أحاديث الناس في الجلسات عن صحيح البخاري ومسلم لا عن الغناء والملذات، واعتقدوا جميعاً أن الشعيرة هي الغاية، لا وسيلة تساعد الإنسان بمهمته بتحقيق شيءٍ آخر، وأن الدين لابد وأن ينعكس على الأخلاق وأن يؤسس للرحمة والإنسانية بداخلنا ليحق لنا الاستخلاف في الأرض، فذلك لن يغير من المعادلة شيئاً، ولن يشكل أي تهديد للخصوم إطلاقاً، فالموازين هي نفسها، والمعادلة هي ذاتها.

 

لا تنقصنا في مجتمعاتنا شعائر، ولا مكتبات، لا أحاديث ولا صحاح فالمكتبات مليئة، والحفاظ كُثُر، وما أكثر المجالس التي تتحدثُ بالصحيح والآيات والشريعة. وكثيرٌ من الأحاديث والكتب تمشي على الأرض بحفظ أصحابها لها، كل هذا لم يغير من المعادلة شيئاً أو ربما غير بالفعل، لكن باتجاه الأسوأ. ما ينقصنا فعلاً هي عقول تفهم الشريعة بشعائرها وقرآنها وسنّتها بشكل عملي صحيح، فلن يُغير الدعاء الظلمَ وانتهاك الحقوق ولن يُغير الابتهال الجهلَ والمرض، ما نحن بحاجة إليه بالفعل هي عقولٌ تحسن تَلقِي تلك النصوص، وتتعاطى مع الشعائر كمؤسسات تهذيب للنفس، ومحطات تمنحُ الإنسان وقوداً يكفيه لإعمار الأرض وإصلاحها، فمتى تخلصنا من تلك المعايير العشوائية في اللوم يمكننا استثمار شعورنا بالذنب بشكل صحيح.

 

ستظل مشكلة محتكري الدين هي أكبر مشكلات عالمنا العربي، هؤلاء الذين يظنون أنهم نواب الله في أرضه، قضاة على عباده، وكلاء حصريين للدفاع عن هموم ومشكلات الدين دون غيرهم، أنهم الوحيدين الذين يفهمون كلام الله ومن دونهم قاصر لا يعقل. نحن مدينون بالعرفان لكل هؤلاء الذين لم يتحدثوا عن الدين كثيراً بل رأيناه ملئ الشمس في أخلاقهم، وأيضاً مدينون بالفضل لكل الذين قالوا أو فعلوا شيئاً عظمت به محبة الله في قلوبنا.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.