شعار قسم مدونات

العبودية في ثوب الحرية

blogs - people
السادسة صباحا، كنت واقفا خلف نافذة غرفتي الصغيرة التي تطل على أحد أكبر شوارع مدينة تور بفرنسا، برد قارس في الخارج وقطرات الندى حطت على جنبات الطريق وعلى الشجيرات المتواجدة عليها.. وبالرغم من أن الشمس لم تشرق بعد، إلا أن السيارات كانت تغدو وتروح بكثافة وسرعة عاليتين منذ وقت مبكر، كل الناس مسرعة ومتوترة وتبدو لاهثة خلف شيء ما، شيء خفي أجهله تماما وأحاول اكتشافه كل يوم.. هكذا الحياة هنا.. ربما أنا غريب عنها لذلك تبدو هي أيضا غريبة عني.. لا أعلم لكن على الأرجح أن الأمر كذلك.. 
    
فكرت مليا ما الذي يمكن أن يجمع هؤلاء الناس كلهم مع اختلافاتهم الكبيرة تحت سقف واحد؟ ما الذي يمكن أن يجمع البشر ويشكل نقطة التلاقي والوفاق فيما بينهم مع تفاوتاتهم العريضة والمتعددة.. دون نزاع أو صراع؟ جميل جدا أن يكون هذا التناغم الذي يحضر رغم التنوع.. والاتفاق الذي يحصل رغم الاختلاف.. أمر مثير جدا.
  
فكرت مليا، لساعات.. لأيام.. فلم أجد بعد التفكير والنظر إلا شيئا واحدا وعظيما يمكن أن يجمع الناس كلهم.. إنها الحرية.. نعم الحرية.. مفردة واحدة لكنها زاخرة بالكثير من المعاني العميقة وتحمل في طياتها كل شيء، بل يمكن أن نربط وجودها بوجود الإنسان، الحرية التي يقول عنها علي عزت بيغوفتش إنها أساس الأخلاق وجوهر الوجود الإنساني..
  
في الحقيقة، غرابة الحياة هنا وجِدَّتُها لا بد أن يلمسها أي شخص عربي مثلي لامست أقدامه هذه الأرض للمرة الأولى.. غرابة تقف وراءها الكثير والكثير من الأشياء، ولعل أبرزها الحرية نفسها، فهي من ناحية غرابة من لم يعتد على الحرية حين قدومه إلى عالم من الحرية الهائلة.. فبينما ولدت وعشت في وسط وثقافة تكاد تنعدم فيها الحرية ثم انتقلت إلى وسط وثقافة جديدين مفعمين بحرية كاملة.. شكل ذلك بالنسبة لي صدمة كبيرة وأثار في نفسي شكوكا وتساؤلات جمة..
    

يمكن أن نعرف الحرية بأنها أن تكون حرا في وضع قيودك بنفسك؛ لأن الحرية الخالية من أي قيود ليست حرية بل عدمية

إن من يريد المقارنة بين وضعية الحرية بين الشرق والغرب سيلحظ تباينا واضحا وفرقا كبيرا بين الثقافتين اللتين تقفان على طرفي نقيض تقريبا، فبينما تقيد حريات الناس في المشرق العربي في جميع المستويات، وأخص بالذكر الحرية في التعبير عن الآراء الفكرية والعقدية والسياسية، وكذا في بعض الأحيان حرية الملبس وأسلوب العيش الذي قد يصل إلى فرض توجهات واختيارات وأفعال معينة على أشخاص من قبل المجتمع أو من قبل عائلاتهم.. في حين يعرف الغرب حريات كثيرة تكون أحيانا مطلقة بالنسبة للجميع، وعلى جميع الأصعدة.. هاتان الوضعيتان سأوضح رأيي فيهما فيما يلي من الأسطر..

     
أعترف بأنني أشعر باستياء وإحباط كبيرين حين أسمع عن شخص تفرض عليه أشياء معينة أو أفراد يسجنون بسبب آرائهم وأفكارهم أو يحاربون ويقتلون لأنهم ينتمون إلى تيار معين، لأنه ببساطة في هذه التصرفات تجاههم نفي لإنسانيتهم ومحاولة سلب لأحد أغلى الأشياء التي يمكلها الإنسان، لكن الخطير في كل هذا أن سلب الحريات وقمعها غالبا بل دائما ما يؤدي إلى انفجار تعظمُ خسائره، ويمكن ملاحظة ذلك من خلال ثورات الربيع العربي أو الثورات التي حدثت في أوروبا والتي كان السبب الأساسي وراءها هو قمع آراء الناس وحرياتهم، كما حدث مع الإيطالي غوردانو برونو الذي أحرق بسبب آرائه العلمية، وعلى مستوى أبسط يمكن أن نلمح تأثير غياب الحرية في بعض العائلات التي يكون فيها الأب متسلطا ومتشددا، ما يُنتج أبناء ذوي نفسيات هشة أو ثوارا على التقاليد وعلى ما يرغبه آباؤهم من توجهات دينية أو عرفية متشددة، وأشهر مثال على هذا هو الأب السلفي المتشدد الذي يكون ابنه في الغالب عكس والده تماما.
   
هذه المظاهر رغم بدء اختفائها في بعض بقاع المشرق العربي، إلا أنها لا تزال واقعة وحاضرة في كثير من البقاع الأخرى، وبالتالي فإنه من الضروري أن يتنبّه الناس إلى قيمة الحرية وضرورتها وجوهريتها في حياة الإنسان، خاصة في بعض الدول الديكتاتورية التي تدعي الديمقراطية في العلن وتصيح بها صباح مساء، لكنها لا تتردد أبدا ولو لوهلة في قمع الآراء والأفكار وحرمان الناس من حقوقهم الأساسية كلما سنحت لها الفرصة لفعل ذلك، وإني أتنبأ لهذه الدول بثورة وانفجار حتميين إذا لم تقرأ التاريخ وتدرك دروسه وتعي وتؤمن بالحرية كمبدأ أساسي لا مفر منه لتفادي الكارثة ..
  
أما بالرجوع إلى الغرب، فإنه كما ذكرت سابقا وسط منفتح جدا ومتسم بالحريات الفردية والجماعية، لكن أريد أن أتحدث عن شيء لاحظته فيما يخص الحريات في الغرب. لذلك أريد أن أصنف أولا الحريات إلى حرية عامة وحرية خاصة، أما الأولى فأعني بها الدائرة الكبيرة للحرية؛ أي حرية الناس في التعبير عن حرياتهم، وهي حرية لا يمكن تحديدها أو قياسها لأنها فقط تشمل مجموع الحريات الخاصة. والثانية هي حرية الفرد، وهنا الخلل الذي أريد أن أتحدث عنه.
        

لا تتعجب إذا رأيت الغرب يلهثون إلى قتل الوقت بأنواع المتع واللذات ويسمون هذا حرية، في حين أنها عبودية في ثوب حرية
لا تتعجب إذا رأيت الغرب يلهثون إلى قتل الوقت بأنواع المتع واللذات ويسمون هذا حرية، في حين أنها عبودية في ثوب حرية
      

في الواقع، ما يحدث عند الكثيرين في الغرب هو عدمية طاحنة وليس حرية أبدا، لأن الحرية ينبغي أن تكون تجاه أشياء معينة، لكن حينما تختفي هذه الأشياء بسبب ما يسمى بالحرية المطلقة، فإن الإنسان يسقط في هاوية العدمية، حيث لا يصبح لوجوده أي معنى. وأغلب الغربيين يعيشون على هذا النحو، ولا يدركون أن الحرية المطلقة لا وجود لها على الإطلاق، لأن وجودها بالضرورة هو انعدام لمن يطالب بها. فمثلا إذا كنت تطالب بحريتك في الحصول على شيء معين فإن حريتك مرتبطة بوجود هذا الشيء، أما إذا ما طالبت بحرية مطلقة تمحو هذا الشيء فإنك تمحي حريتك، وبالتالي ذاتك، لأن الحرية كما قلت مرتبطة به. وللمزيد من التوضيح؛ العلمانية على سبيل المثال هي فصل الدين عن الدولة، لكنها لا يجب أن تذهب إلى محو الدين من حياة الإنسان لأنها بذلك تعدم نفسها بنفسها لأنها بالأساس مرتبطة بالدين.

     
إن الحرية التي يعيشها الناس في الغرب هي عبودية صافية دون أن يدروا، ففي حين يطالبون بحريتهم في فعل ما يشاؤون وقتما يشاؤون، فهم في نفس الوقت يسلمون نفوسهم ضحايا وعبيدا لتلك الأفعال، وكلما ازدادت الحرية ازدادت عبوديتهم إلى أن تكون مطلقة كما يطالب بها البعض، فيصلون هم إلى عدمية واضحة. وفي هذا السياق، لا تتعجب إذا رأيت الغربيين يلهثون ويتسارعون إلى قتل الوقت بأنواع المتع واللذات ويسمون هذا حرية في حين أنها عبودية في ثوب حرية، وفي الحقيقة هم لا يحسون ولا يتذوقون لذة الحرية وقيمتها إلا إذا وضعوا قيودا لأنفسهم، فيحسون بأنفسهم أناسا ذوي قسمة قادرين على مجابهة الحياة ومقاومة أي شيء، أما إذا أزالوا جميع القيود، فإنهم ينجرون إلى العدم. وفي هذا الصدد أعطي تعريفا للحرية بأنها أن تكون حرا في وضع قيودك بنفسك، لأن الحرية الخالية من أي قيود ليست حرية بل عدمية.
  
خلاصة القول هنا أننا يجب أن نعيد النظر في مفهوم الحرية وقيمته وضرورة وجوده في الحياة، أما إذا أردنا أن ننقل من الغرب طريقتهم في الحرية فينبغي أن نعيد صياغتها في قالب معقول مناسب لتصوراتنا، ولا تؤدي إلى انعدام الكيان الإنساني كما يحدث عندهم عن دراية أو عن غير دراية.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.