الفيزا أخذت من عمرها عمرا وهي تنتظر، والناس لم تتركها في حالها، قلق وراء قلق طوال سنة ونصف لكنها في النهاية حصلت على الفيزا وبدأت تشد الرحال لتلحق بزوجها في أميركا.
كان الرحيل شاهدا على مرارة الحال، دبّر زوجها ثمن التذكرة من هناك ودبّرت هي كثيرا من المصاريف الأخرى لمشاوير الفيزا وشراء أغراض هامة ومونة قد لا تجدها هناك، وأمها تؤكد أن بلاد الأجانب ما فيها "ملوخية"، سألت كثيرا جارة لها أخت في أميركا عن ماذا تأخذ معها، فسردت لها قائمة طويلة وأكدت عليها: لا تنسي إبريق الماء للحمام فالأجانب لا يستنجون".
كان الرحيل صعبا، بكت كثيرا وهي تودع والدها ووالدتها وأخوتها، ظلوا يبكون وهم يحضنون الطفل الصغير الذي اعتادوا على ضحكاته، وها هي تغيب عنهم لتسافر عبر القارات. |
مزحت والدتها للجارة: "هل تأخذ معها ربطة خبز؟ تعرفين الخبز أصبح غاليا وفي أميركا ما عندهم خبز عربي وخبز مشروح"، ضحكت الجارة واستهزأ والدها بالنكتة التي تؤرقه بشكل يومي وهو يجلب الخبز للبيت بعد ارتفاع أسعاره والناس قيامتها قامت على هذا الارتفاع.
ورغم اللحظات المضحكة التي مرت عليها وهي تعد الحقائب وتبيع بعض الحاجيات التي لن تعود لها مرة ثانية، لكن ظلت تتذكر شعورها بالقهر وهي الفتاة الجامعية التي درست واجتهدت في تخصصها بكلية العلوم وقدمت للعمل لديوان الخدمة المدنية وللمدارس الخاصة دون جدوى.
تزوجت شابا حصل على الجنسية الأميركية من زواجه بسيدة أمريكية، الجميع أكدوا لها أن هذا ما يفعله كل الشباب هناك وهو أمر عادي فوافقت وتزوجا ثم سافر لكي تلحق به فيما بعد. قال لها وهو يحادثها على أحد التطبيقات على الهاتف: "جهزتُ البيت بقليل من الأثاث بانتظاركم، ودّعي أهلك لأننا قد لا نتمكن من العودة لوقت طويل إلى البلاد حتى تحصلين على الجرين كارد، أصلا الأحوال المادية هنا أصبحت سيئة والتذاكر غالية، وغالبية الناس هنا صاروا مثلي يعملون لـ"أوبر" وللشركات التي تشبهها في إيصال الناس، الوضع المادي صار أصعب".
كان الرحيل صعبا، بكت كثيرا وهي تودع والدها ووالدتها وإخوتها، ظلوا يبكون وهم يحضنون الطفل الصغير الذي اعتادوا على ضحكاته وملاعبته اليومية، هو الحفيد الأول وفرحة الابنة الأولى، وها هي تغيب عنهم لتسافر عبر القارات.
لم يسألها أحد عن مشاعرها وهي تغيب بين جموع المسافرين، لم يكن متوقعا ألا تكون فرحانة وهي تغادر الوطن إلى زوجها، فالطبيعي أن تفرح وتطير سعادة على الأقل بالتجربة الجديدة، والبلاد الجديدة، وفي الحقيقة لم يكن هناك شيء مهم، طالما أن الجميع يتوقع لها كل ذلك. أما هي فكان الرحيل وجعا يمنع ابتسامتها في وجه طفلها، إحساس له طعم مر وهي تودع ناسها والأماكن التي اعتادتها والحياة البسيطة الوادعة بين أهلها وإن كانت تنغصها الأوضاع المادية الصعبة عندهم.
الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.