شعار قسم مدونات

لن نبكي بعد اليوم

مدونات - فلسطين
"الذي يجبرنا على أن نزغرد في جنازات شهدائنا هو ذلك الذي قتلهم، نزغرد حتى لا نجعله يحسّ لحظة أنّه هزمنا وإن عشنا سأذكّرك أننا سنبكي كثيرا بعد أن نتحرّر، سنبكي كلّ أولئك الذين كنّا مضطّرين أن نزغرد في جنازاتهم، سنبكي كما نشاء ونفرح كما نشاء وليس حسب المواعيد التي يحدّدها هذا الذي يطلق النار عليهم وعلينا الآن"
(إبراهيم نصر الله في رواية أعراس آمنة، الصفحة 98)
    
بكت وانتهى! كلّ القرى المغتصبَة، كلّ الشجيرات المعذَّبَة، كلّ السواقي المرعبَة، كلّ النصوص المتعبَة، بكت وانتهى! ونال الدمع ما اشتهى، رسم في الوجوه طريقه وفي القلوب خريطة واضحة المعالم والآثار، وحفر لنفسه فيها بيتا من آبار، لم يعد ينادي هل من مزيد، الآن لم يعد يريد، مزيدا من العبيد، مزيدا من الثريد المصنوع من فتات الورق والعرق والقلق، هو يريدنا أن نقبل ورقة الطلاق بروح رياضيّة وألّا نجرّه مجدّدا في محاكم الحزن، هو يريدنا أن نبدأ وأن ننتفض وأن نغضب لنتحرّر لا لنكتئب، يريدنا من الآن فصاعدا ألّا نفكّر فيه، ألّا نرضخ له، ألّا نركض خلفه، أن نبعده عن واقعنا، أن نكدّسه وندّخره لأفراحنا وأن نخفيه، وأن ننتصر لأحلامنا ونجافيه.
  
بكت وانتهى! البلابل والبيادر والسنابل، وتعرّفت على الرصاص والقنابل، كلها استحالت أشياء معتادة، لا ليست بلادة، هي فعلا هكذا أصبحت، أشياء معتادة، نتناولها مع فطور الصباح، نتبّل بها الغداء ونأخذها مقبّلة مع العشاء ودون دعوة تشاركنا هي الأفراح. بكت وانتهى! شجرة اللوز وأوراق الجوز التي كانت تستأنس بأغنيات شعبيّة (طاق طاق طاقيّة) لطفل كان حولها يدور، بكت وانتهى! كلّ حكايات الذاكرة التي لملمت الرفاق في مقهى قديم مقاعده من ورق وفناجينه من سطور. بكت وانتهى!
  
عِدني ألّا نبكي بعد اليوم وأن نقوم كالسّاعة، وأن ننتشر كالإشاعة وأن نتكاثر كالوعود وأن نشتعل كالوقود في أجسادهم وخيالهم. عِدني ألّا نبكي بعد اليوم وأن نطير بأشلائنا إلى الحريّة

كلمات كانت تتوجّع كالنساء، بكت وانتهى! ليلات باردة من شتاء، أثواب النسوة السوداء، زهيرات تكسوها مشكّلة من أبيات رثاء. بكت وانتهى! الأثواب المقدسية وصدّرت للغد والحريّة ألوانها الزاهية البهيّة، كلها تحلّت بمشاعر أثواب جبليّة لم تخدش صدرها إبر التطريز ولم تخترقها خيوط الحرير الطريحة، بما فيها الثوب السبعاوي والتلحمي وفساتين أريحا. بكت وانتهى! كلّ البيوت العتيقة، كلّ المشاوير التي أضاعت الطريقَ. بكت وانتهى! كلّ حبّات الزيتون التي تراقصت مع برد نيسان، وتباكت على صوت فيروز يغني "خذوني إلى بيسان"، بكت وانتهى! كلّ العيون وكلّ الصبايا وكلّ الحكايا وكلّ الأغاني، بكت وانتهى! حنجرة فيروز وقصائد الرحباني.

  
لن نبكي بعد اليوم، بكينا بما فيه كفاية، بكينا الرواية، بكينا السبب، بكينا كم من لقب، بكينا من الجليل إلى النقب، بكينا وانتهى! نريد اليوم أن نرافق البارود إلى بيته وأن نزغرد، لأن الذي ذرفنا الدموع عليه يريدنا أن نزغرد، لأنّ الذي سقيناه بالدماء يريدنا أن نزغرد، لأن الذي شطف قلوبنا بالحزن يريدنا أن نفرح ونزغرد، لأن الذي جعلنا نكتب الشجن والألم والذكرى يريدنا أن نزغرد، ولأن الذي زرعهم أو أراد أن يزرعهم فينا حين شنّ علينا حربا نفسيّة يريدنا أن نبكي ونعجز وننتهي، لهذا علينا أن نجعله يحصد انتصارنا على أحزاننا وبالتالي انتصارنا عليه.
  
لن نبكي بعد اليوم، بكينا بالأمس وانتهى! سنبتسم كما يبتسم الشهداء حين يقابلون ملك الموت، سنبتسم كما يبتسم الرضيع النائم، سنبتسم للملائكة التي أمدّنا الله بها، سنبتسم لأعدادنا التي لم تنتهِ يوم أرادوا إبادتها، سنبتسم لقدر هذه الأرض السعيد، قدر الانتصار، قدر العودة للديار، لن نبكي بعد اليوم ولن نجعلهم يطربون لشهيقنا ودموعنا، لن نمنحهم فواصل ليخططوا لدمع جديد وحزن جديد واكتئاب شديد واغتصاب آخر، ولو شيّعنا شهيدا وراء شهيد. "إنّ من يبكي على شاب يستشهد لا يستطيع أن يوقف هجرة اليهود لفلسطين أو يطرد الانجليز منها"، على حدّ قول اليوغسلافي في رواية زمن الخيول البيضاء، الصفحة 321. ها هم قد دخلوا وسيخرجون، لن نبكي على الشهداء، فالشهداء أحياء عند قبض الروح لا يتألّمون.
  
undefined
 
هم يريدوننا أن نرث الحزن ونورّثه حتى يغدو وباء مزمنا، هم يريدوننا أن نصاب بالدموع وراثيا وأن نكتسبها تلقائيا كما المرض، كيميائيا بسلاحهم، بيئيا بحصارهم، اجتماعيا بتفرقتنا، ونفسيا بالكآبة وغنائيا بآلام الدلعونا والعتابا، لهذا سننسى، سننسى الدموع ولن نبكي بعد اليوم. سنشرق كشمس آذار ونتفتّح كوروده ونكتسي بإصرارنا على الحريّة كأرض يكسوها الاخضرار. سنعود كالزهور وكالسرور، سنعود كالشمس صباحا توزّع نورها هنا وهناك، تنشر الدفء في الشتاء وتلفح صيفا من تشاء، سنعود بصيفنا وشتائنا، سنعود بنارنا ودخاننا يا آذار.
  
كالزهور يا آذار ستشرئبّ عيداننا لتلقاك ربيعا في الفضاء، كالزهور سنقوم من جديد، سنمرّ مع الذرّات في الهواء، سنحلّق كما الطيور، كما الغيوم في السماء، سنعبرها كما البريد. سنشد ساق حمام زاجل ونسقط كالخبر العاجل، على رؤوسهم، على رشاشهم، في رصاصهم، في أوكارهم، وسط أعصابهم، نخرج في منامهم، في حمّامهم، من خلفهم، من أمامهم، عن يمينهم، عن شمالهم.
 
سنعود يا أرض التين والزيتون والعنب والليمون، سنعود يا أرض الأخضر والأحمر والبيلسان والزعتر، سنعود يا أرض البرتقال والنضال، سنعود كالمطر، كخيوط الشمس وضوئها المسافر في وجه القمر، نمسح من وجه يومك الشاحب عينا شاردة ونغطّي بأحضاننا ظهر ليلة باردة. سنصطّف كنغمات ضربات أرجل دبّيكة، كصفحات تاريخنا المشكّلة بخيوط القزّ الملوّنة في فستان الحجّة رقيّة، كمربّعات كوفيّة. سنعود من اللاحياة إلى الحياة، سننفض الموت عن صدورنا، سنمزّق أكفاننا وسنسمو، نسطع، نتسرّب، نزحف، نشرق من قبورنا. يا أرض قلت لك سنعود، إنّا سنعود، وربّي سنعود وسننتشر مع رائحة البارود. سنشرع نوافذنا إلى الدروب الخضراء وسنفتح أبوابنا الخشبيّة، أبوابنا العربيّة بمزهريّة فلسطينيّة.
   
لن نبكي بعد اليوم، عِدني ألّا نبكي بعد اليوم، عِدني أن يرحل هذا الحزن من وجهك وألّا يدوم، عِدني أن تحدّثني كلّ ليلة عن الأفراح، عدني أن تذكّرني بأحلامنا مع كلّ صباح، أن تشدّ يدي وتمضي بي إلى كلّ شبر من أرضنا اغتصبوه لنحرّره. عِدني ألّا نبكي بعد اليوم وأن نقوم كالسّاعة، وأن ننتشر كالإشاعة وأن نتكاثر كالوعود وأن نشتعل كالوقود في أجسادهم وخيالهم. عِدني ألّا نبكي بعد اليوم وأن نطير بأشلائنا إلى الحريّة، عدني أن نشتدّ كالحرّ وننتشر من حولهم كالضرّ، أن نرفع أشرعتنا كالبحّارة أن نتشكّل كالحجارة ونصمد ونتّحد، وأن نصطفّ كالبنيان المرصوص وأن ندوس مشاريعهم بإصرارنا ونضالنا وكفاحنا. عِدني ألّا نبكيَ بعد اليوم، أرجوك عِدني!

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.