شعار قسم مدونات

مشروعُ نهضة (2).. بناء الإنسان

blogs إنسان تفكير، تأمل

الإنسان هو أساسُ كل حضارة بشرية، فهو الأصل، وهو المادّة الخام، وهو الجذر الذي تتفرّع منه كل المجالات الأخرى لتنموا وتُزهر، وهو بمثابة قطراتِ الماء التي تبعثُ الروح من جديدٍ في شجرة الحضارة الجدباء بعد أن كادتُ تذبلُ وتموتُ أوراقها من شحّ المياه، وبالتالي فإن أي تطلّع لمستقبل أفضل رهينٌ بمدى جاهزية هذا الإنسان للتحديات والإكراهات التي تصاحب بالضرورة عملية التطور والانبعاث.

والحالة هذه، كان لزاماً على الإنسان نفسه البحث عن سبل تشقّ طريقَه نحو التقدم والرقي، في أفقِ تأسيس مجتمعٍ منتجٍ محقّق للركائز الأساسية للتطور، وليس التطور مرتبطاً بمجتمعٍ من المجتمعات على وجه التحديد، لكنه قابلٌ للتطبيق على كل المجتمعات الإنسانية التي اعتمدتْ مشروعاً قائماً بذاته يسيرُ بها في مصفّ الدول المتقدمة جنباً إلى جنب، بشرط أن تتوفّر الإرادة الصريحة الجادّة، والنية الصادقة المُنبثقة من وعيٍ كاملٍ بمكامنِ الخلل ومواطنِ الضعف والطموح إلى بلوغ الأهداف المسطّرة مسبقاً.

أعتقد أن بناء الإنسان هو من أكبر التحديات التي يُمكن أن تواجه عملية التطوّر، وهو يتطلّب إعادةَ تقييمِ المبادئ الأساسية التي تتوفّر لدى الفرد الواحد، وهذا لا يتأتى إلا بتربية النّشء منذُ نعومة أظفاره على الأخلاق والمثل بطريقة علمية صحيحة، ولا يُمكن زرع المبادئ إلا في الجيلِ الصاعد القابلِ للتوجيه والتأهيل، حتى نتمكّن من قطفِ الثّمار على المدى البعيد أو المتوسط، مع الصبر والاستمرارية، فتسلّق الجبل لا يتمُّ إلا من السفح، وطلوعُ المبنى الشاهق لا يتم إلا من الطابق الأول، وقرارُ بناءِ نهضة حقيقية اعتماداً على خيارِ الإصلاح والانطلاقِ من نُقطة الحالة القائمة قرار لا طائل من وراءه، فهو بمثابة محاولة تحديدِ الطريق السالكة من بين عدّة طرق متشابكة بعضها مع بعض، إذ لا يُمكن تعيينها إلا إذا تتبّعتَ الطريق من نقطة بدايتها.

الطاقة العربية تُهدر نسبةٌ كبيرة منها في البحث عن تأمين الحد الأدنى من مستلزمات العيش وضمان لقمة الخبز بشكل يومي، لذا نلاحظ تراجع الإبداع العربي

إنّ أي مشروع نهضة لا بد وأن يكون الإنسان فيه هو محور الانشغال والاهتمام، بل واللبنة الأولى التي تُشيّد في تأسيس هياكل هذا المشروع الطويل المُنهك، وبالتالي فكل مشروع نهضة لا يقوم على أسسٍ إنسانية متينة وموثوقٍ بها لا يمكنه الصمود أمام تيارات التحديات المختلفة التي تواجه العالم. وليس التطور إعادة لتجارب الآخرين، فذاك ليس بالضرورة صائباً، لأن كلَّ حالة تتفرّد بخصوصياتها وظروفها المعينة كما كان يرى المُفكر مالك بن نبي حن قال: "لا نَستطيع أن نستورد من الغرب كل آلياته التي بلغها، لأنها لا توافق بعدنا الفكري".

لا يمكننا تهيئ الفرد الذي بفضله تُبنى النهضة وتُقام، إلا إذا واكبتْ تنشئتُه برنامجاً محكماً يُلازمه في كلّ أطوار حياته، يُنصتُ لمعاناته، يُساعده في تعثراته وعقباته لينهضَ ويُواصل، كالزهرة التي تحتاج لجرعات من الماء حتى تنمو وتُعطي ريحها، فمن جانبٍ لا يجب أن تزيد هذه الجرعات إلى درجة أن تُغير للفرد نمطه الطبيعي في الحياة، ولا يجب لها من جانبٍ آخر أن تنقص بحيث تُؤثر على السير العادي لتنزيل المشروع، ولا بد أن تخضع التنشئةُ كذلك لاهتمامٍ متزايدٍ بالتنمية الذاتية والنفسية منذ السنوات الأولى للطفل، بل وعليها أن تُشكل المادة الأساسية في المنظومة التعليمية لما لها من فوائد جمّة في بناء شخصية الإنسان وصناعة وعيه واستعداده النفسي لمجابهة تحديات الحياة وما أكثرها، فشخصية الإنسان عامل مهم في بناء مجتمعات سليمة آمنة واعية بنظامها الداخلي ومسؤولة عن كل ما تُصدرهُ من أفعال وأحاسيس.

إن الطاقة العربية تُهدر نسبةٌ كبيرة منها في البحث عن تأمين الحد الأدنى من مستلزمات العيش وضمان لقمة الخبز بشكل يومي، لذا نلاحظ تراجع الإبداع العربي الذي يتطلب قدراً كافياً من الاستقرار والتركيز، فالإنسان عندما يجد عنصر الاستقرار يُبدع ويُنتج أكثر، وهذا ما يفسر تألق العقول العربية المهاجرة إلى أمريكا وكندا وأوربا كونها تجد هناك أرضية ملائمة ومساعدة على الإبداع والعطاء، فنجدُ الفرد في الدول المتقدمة يُركز ذهنُه أكثر على ما يتصف به من قدراتٍ ومؤهلات، من أي نوع كانت، فيَسهرُ على تطويرها وصقلها وإظهارها للآخرين ضامناً في الوقت ذاته دخلاً يُؤمن به بقاءه ومستقبله، وهذا ما يجعل نسبة الإبداع الفني والعلمي والأدبي ترتفع بشكل ملحوظ في الدول المتقدمة مقارنةً مع الدول التي تُعاني الفقر والتهميش.

لا بدّ لنا إن نحن قرّرنا المُضي قدُماً في بناءِ صرح لنهضة عربية فاعلة أن نُعيد الاعتبار للتعليم وأن نُخرجه من تقوقعه الحجري ببثّ دماءٍ جديدة فيه، والتعليم ليس تشييد المدارس والجامعات فقط، إنما هو النتيجة المُنتظرة من إنسان بعد أن يقضي سنوات طويلة من عُمره في التعلم، فالتعليم في دولنا العربية أصبح مُقترناً مع الأسف ببعبع النجاح والعلامة، ولا علاقة له بالمعرفة والاستفادة، والمهم لدى النّشء الصاعد اليوم أن يحصل على معدلات تضمن له الانتقال إلى المرحلة الدراسية التالية، بغض النظر عن نجاحه في تجميع محصول معرفي جيد ينفعه في مستقبله.

 

فالتعليم هو بمثابة الحقنة التي تُنقلُ بها الأخلاق والقيم والمعارف إلى الأجيال القادمة، فإذا فسدت الحقنة فسد الجيل بأكمله وجَنَينا من ذلك كوارث اجتماعية كبيرة، كما أن المواد التطبيقية كالفيزياء والكيمياء والعلوم الطبيعية لا يُمكن تدريسها بطريقةٍ نظرية، فهي تُدرّس في المختبرات والمعامل العلمية، لأن ذلك يُفقدُها بريقها وجوهرها فتتحول إلى مواد منبوذة مُملّة للطلبة، في حين أنها العصب الرئيسي في تقدم العلوم والتكنولوجيا للدول، ولا يمكن أن نتخيّل تعليماً دون أنشطة موازية، تفتحُ المجال أمام التلميذ أو الطالب لإبراز مواهبه وفرض نفسه، لأن ذلك يساعده بشكلٍ كبير على التحصيل العلمي الجيّد وانفتاح أفكاره وتنمية تواصله مع محيطه، ولا بد أن يكون التعليم الذي يتلقاه الفرد متماشياً مع نوعية فرص الشغل المتاحة، إذ أن الهدف من العلم هو تطبيقه، وإلا ما فائدة أن يقضي الإنسان حياته في دراسة علم لا ينفعه بعد تخرجه.

نحن بحاجة ماسة لفكرٍ سهلٍ قابل للإنجاز على أرض الواقع، سئمنا من النظريات المعقدة والأفكار الضبابية التي يطغى عليها الكلام والتنظير على الفعل السليم السديد
نحن بحاجة ماسة لفكرٍ سهلٍ قابل للإنجاز على أرض الواقع، سئمنا من النظريات المعقدة والأفكار الضبابية التي يطغى عليها الكلام والتنظير على الفعل السليم السديد
 

وتبقى التربية القائمة على أسسٍ علمية متعارف عليها دوليا من أهم ما يُمكن أن يصاحب تكويناً متماشياً مع سوق الشغل، دون إهمال الفئات الخاصة من المتعلمين الذين يُبدون تصرفاتٍ عدوانية منذ طفولتهم أو ميلٍ إلى الانحراف والتطرف في سن مبكرة جدّا، فهؤلاء يحتاجون إلى رعاية خاصةٍ وإلى تربيةٍ دقيقة حتى نجعلهم أهلاً لتجاوز محنتهم، خصوصا وأنهم مُجبرون على هذه التصرفات، وإن إهمالهم مضرّة كبيرة للمجتمع وجناية في حقهم، ولا ريب أنهم يجيدون فنّاً من الفنون أو تقنية من التقنيات يجب استثمارها، فالإنسان مبدعٌ بطبيعته لكنه يجهل قدراته ونقاط قوته.

لا نتخيّل حضارة عربية تتبلور في أفق المستقبل دون الأخذ بعين الاعتبار اللغة العربية الأم، فبدونها لن نبلغَ المنى ولو كان الاعتماد على اللغات الرائدة الأخرى كاملاً، وهذا أساس كل نهضة إنسانية، فكما يقال تدريس اللغات الأجنبية واجب، والتدريس باللغات الأجنبية جريمة. إن الأبحاث والاكتشافات التي يحققها العلماء العرب في الخارج تُحسب على الدول المستقبلة، وتُكتب باللغة الأجنبية عادةً ولا تُترجم إلى العربية، وبالتالي لا نصيب للعرب من هذه الاكتشافات العلمية حتى وإن كان أصحابها يُتقنون اللغة العربية إتقاناً، ولأنّنا كذلك نتعلّم أفضل باللغة التي نَفهمها ونُتقنها ونكبر في كنفها، وبالتالي يكون التركيزُ أكثر في العطاء نفسه وليس في الوسيلة التي يُقدَّم بها هذا العطاء، وهذا في حد ذاته مكسب مهم للطاقة والجهد.

نحن في حاجة ماسة إلى فكرٍ سهلٍ قابل للانجاز على أرض الواقع، سئمنا من النظريات المعقدة والأفكار الضبابية التي يطغى عليها الكلام والتنظير على الفعل السليم السديد، إن النيّة في التطور والرُقي كائنة، ولعلها من المواصفات الفطرية التي تتصف بها الإنسانية بشكلٍ عام، إلا أن الطريقة المتّبعة عادة ما تكون بعيدة كل البعد عن الصواب في كل مرّة تتضافر الجهود بنية إنجاحها ودفعها قدما نحو الأمام.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.