شعار قسم مدونات

الكضية والقضية.. والواقعية

مدونات - غزة
قبل نصف ساعة شتمني أحدهم في وسائل التواصل بأنني "حمار ابن حمار"، وضحكت طويلاً. ورد عليه أحدهم بشتم القضية الفلسطينية، وقال في سياق شتمه كلمة جوهرية. قال، وأنقل حرفياً: "الكضية خاسرة. ليس لدينا وقت. نحن أمام مرحلة مفصلية. العالم يتحرك نحو المجد وأنتم ما زلتم في نفس المكان تبا لكم وتبا لقضيتكم".
  
الأول صاحب الحمير عبر عن غيظ محض. أما الثاني فلديه فكرة حاول التعبير عنها وسنناقشها. وفي بداية كلامه كتب كلمة القضية هكذا "الكضية"، وهذا ليس خطأ مطبعياً بل سخرية من اللهجة الفلسطينية. ونحن نفوِّت ذلك، بل نقول له ههه ونعطيه قلباً لروحه الفكهة. ثم قال "القضية خاسرة"، وهذا صحيح في المدى المنظور. فأهل القضية ليسوا متفقين على شيء. وقال: "ليس لدينا وقت" وهو يشير بذلك إلى التغييرات المتسارعة في السعودية، والتوق إلى اللحاق بالأمم الناجحة. "المرحلة المفصلية" لا نوافقه عليها، فكل المراحل مفصلية. والمجد الذي يتحرك نحوه العالم أمر مشكوك فيه.. وأما بشأن أن الفلسطينيين قابعون في نفس المكان وتباً لهم ولقضيتهم، فنحن نخالفه.. نحن لسنا في نفس المكان.. نحن نتقهقر. ونترك التباب لأبي لهب ويديه.
 
بين الواقعية السياسية وبين جبهة الرفض والممانعة ليس عندنا من طريق ثالث سوى أن نجلس في مساجدنا ندعو الله دعاء خالياً من السياسة: ربنا أصلح أحوالنا

صاحبنا ممتلئ بالواقعية السياسية. يرى أن على العرب أن يحلوا قضية فلسطين مرة وإلى الأبد، ويعقدوا صفقة مع الأمم المتطورة صناعياً وفي مقدمتها أمريكا وإسرائيل. وليرض الفلسطينيون بما تيسر من أرض. وقد كان هذا منطق السادات في كامب ديفيد. ومنطق ياسر عرفات في أوسلو.

 

المشكلة أننا نحن العرب لا نتحرك نحو المجد. نحن نشكل معسكر واقعية متهافتاً يبيع بثمن رخيص، ويتشكل بجانبه معسكر رفض يجعجع.

 

في السبعينات تشكلت جبهة الرفض وقادتها سوريا. كان حافظ الأسد رافضاً التفاهم مع إسرائيل، وجمع حوله فصائل فلسطينية كثيرة، وخاض معمعة سياسية في لبنان، وطرد عرفات من دمشق. وظل السادات يسير على خط الواقعية السياسية، ونال بعد جهد سيناء. وناصرته جهات عربية قليلة. وفي التسعينات سار عرفات في الطريق نفسه ووقّع أوسلو. وجاء من بعده أبو مازن وظل يسير في نهج الواقعية السياسية، وسار معه الأردن بعد حين، وكادت سوريا تسير ولكن الأسد الأب وجد أن الاستمرار في النهج القوموي القائم أساساً على العبارات الطنانة أربح له، فلم يسر. وظل هناك معسكر رفض. وهو اليوم يسمى معسكر الممانعة.

 
صاحبي الذي قال "تباً لكم ولقضيتكم" يشعر فيما أظن بهذه المعضلة: نحن العرب نستخدم القضية الفلسطينية استخداماً رديئاً. وهي والله "كضية" فعلاً، هي ملك لأصحابها فقط. وأصحابها على خلاف، ويدورون حول ساقية اسمها "المصالحة". كلمة المصالحة هي النكتة التي نرددها من عشر سنين، وبلا ملل.

 
كنت قبل شهرين قلت لإخوتي العرب من الطرفين: أولئك الذين يطالبون بمقاطعة إسرائيل، وأولئك الذين يمهدون لعلاقات مع إسرائيل: "أرجوكم قاطِعوا فلسطين".

 

الاستقواء بإسرائيل يقتضي حلاً للقضية الفلسطينية، وهنا المعضلة الكبيرة حقاً: إسرائيل لا تريد أن تقدم شيئاً بالمقابل
الاستقواء بإسرائيل يقتضي حلاً للقضية الفلسطينية، وهنا المعضلة الكبيرة حقاً: إسرائيل لا تريد أن تقدم شيئاً بالمقابل

 

بين الواقعية السياسية وبين جبهة الرفض والممانعة ليس عندنا من طريق ثالث سوى أن نجلس في مساجدنا ندعو الله دعاء خالياً من السياسة: ربنا أصلح أحوالنا.
 
المحاور الآن واضحة:
الإخوان المسلمون وحماس يرفضون بصوت عالٍ، وسوريا وحزب الله يمانعون بصوت عالٍ، وإيران تمانع وترفض، وتركيا كذلك.

 

الأردن وقطر يسيران على حبل مشدود لأن التهديدات كثيرة.

 

السعودية ومصر والإمارات تسعى لتكوين محور واقعية سياسية. ولكن هذا المحور لديه مشكلاته، فهو مطالب أمريكياً بالوقوف أمام إيران، وربما أمام تركيا أيضاً. وهو لا يستطيع ذلك إلا إذا استقوى بإسرائيل. والاستقواء بإسرائيل يقتضي حلاً للقضية الفلسطينية. وهنا المعضلة الكبيرة حقاً: إسرائيل لا تريد أن تقدم شيئاً بالمقابل. و"صفقة القرن" التي لا نعرف عنها شيئاً ستؤول إلى حبة بندق كبيرة تتعب وأنت تكسرها ثم تجدها فارغة. إسرائيل ترى الضعف العربي وتتمسك بكل شبر من الأرض.

 

في الختام، ورداً على صاحبي الثاني -ليس صاحب الحمير بل الآخر صاحب تباً للكضية-: يا رجل، والله إنني لأعلم علم اليقين أن المجتمع السعودي في أمس الحاجة إلى التحرر من قيود كثيرة كبلته، وإلى الانطلاق نحو المجد. وليتك تصدق أنني أتمنى لكل بلد عربي المجد والتقدم. لكن المسألة معقدة. ولو كنت أملك حلاً لكنت فصلت القول فيه، ولكنني محبط من كل المعسكرات العربية. 

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.