شعار قسم مدونات

"دين الفطرة".. كيف استكشف روسو غموض الإنسان؟

مدونات - دين الفطرة
يعتبر جان جاك روسو من أبرز الفلاسفة الذين حاولوا البحث في غياهيب الإنسان من أجل استكشاف غموض هذا الكائن، ولعل معظم مؤلفاته تناولت موضوع الإنسان في أبعاده المختلفة؛ فمن دين الفطرة نحو خطاب في أصل التفاوت بين البشر وصولا إلى العقد الاجتماعي أو مبادئ الحق السياسي ثم إميل أو في التربية، كلها مؤلفات تتمحور حول الإنسان، ولقد حاول روسو من خلالها الوقوف على الجوانب المحددة للإنسان، دون أن ننسى الدور البارز الذي لعبه روسو في نجاح الثورة الفرنسية إبان عصر الأنوار. هكذا يتضح أننا أمام فيلسوف ساهم بالكثير من أجل استكشاف الإنسان. وفي هذه التدوينة سأحاول تسليط الضوء على مفهوم الإنسان في نظر روسو، وذلك بالاعتماد على مؤٓلفه "دين الفطرة"، وسأحاول في المقالات القادمة الاعتماد على مؤلفات روسو الأخرى، من أجل أن نستكشف معنى الإنسان من زوايا مختلفة في نظر هذا الفيلسوف.
  
الإنسان كائن فاعل وحر وعاقل وتؤثر عليه حواسه، وهو الكائن الوحيد المشرف بقوة التفكير، وتكمن حريته في كونه لا يريد إلا ما يوافقه أو ما يبدو له كذلك. وكلما قلت تجارب الإنسان كلما اتجه تفكيره نحو التمادي، ذلك أنه خاضع لأهوائه، والسبب في شقاء الإنسان وميله لممارسة الشر هو إسرافه في توظيف مواهبه، وكل ذلك يؤدي به في النهاية إلى الأحزان والهموم والمتاعب.
 

يتجلى وجود الإنسان في نظر روسو في كونه كائن يحس ويفكر ويريد ويتلذذ ويتألم ويحب ويكره، وهذه المشاعر توجد بقوة في الإنسان. وحتى يكون الإنسان واثقا من وجوده لابد من تأمله في ذاته، إذ هناك حركات تحدث في الإنسان بدون انقطاع، ويستشعر الإنسان وجوده من خلال هذه الحركات. ويرى روسو بأن الإنسان كائن واعي معرض للمحسوسات، وهذه الأخيرة هي التي تُشعر الإنسان بوجوده، لكن أسبابها تتجلى خارجه، وتؤثر فيه رغما عنه.

 

يشير روسو إلى أن ضمير الإنسان يطيع أوامر الطبيعة ويعاكس كل قوانين البشر، ولأن العناية بالنفس من أولويات الإنسان، فإن هذه العناية تكمن في الإنصات إلى صوت الضمير

يتسيد الإنسان الأرض حسب روسو، لأنه هو الكائن الوحيد الذي يستطيع أن يستخدم لأغراضه كل الموجودات، ويتصرف في خيراتها بكل مهارة، وحتى الكواكب رغم بعدها فإنه يمتلكها بالنظر والتأمل. وتتميز طبيعة الإنسان بميلها لحب ذاتها، وتنطوي هذه الطبيعة على عنصرين مختلفين؛ أحدهما يدعو إلى حب العدل والفضيلة، وإلى اقتحام العالم العلوي. أما العنصر الثاني فإنه يربط الإنسان بذاته السفلى، ويجعله أسيرا لحواسه ومطاوعا للشهوات، ومعاكسا بذلك كل ما يلهم العنصر الأول. ثم يذهب روسو إلى كشف التناقض الذي يعيشه الإنسان؛ من خلال كونه يريد ولا يريد، وشعوره بأنه حر ومقيد، ثم محبته للخير وإتيانه للشر، ثم إنه كلما استخدم عقله يكون متحمسا ونشيطا، ويصبح متخاذلا وضعيفا حال انصياعه للشهوة.

 
يكون الإنسان فاعلا إذا امتلك القدرة على التمييز، أي أنه يستطيع مقابلة المسائل، ثم الفصل بينها، فإذا اختار الخير في سلوكه أصاب الحق في حكمه، وإذا حكم بالباطل مال إلى ارتكاب السوء. ويعتبر روسو بأن الإنسان فاعل شر؛ لأنه لا شر في الكون إلا ما يفعله الإنسان. ومعاداة الإنسان للأشرار ليست نتيجة إسائتهم إليه، بل لأنهم أشرار. يرى روسو بأن طاعة الطبيعة بمثابة واجب يستدعي أن نتبعه، ذلك أن حكمها لين ومتسامح، كما أن الاستماع إلى نصائحها سيؤدي بنا إلى الرضى على النفس والإقرار أنها على صواب، وبما أن الحواس تؤثر في الإنسان، فإنه يسمع ما تمليه الطبيعة على هذه الحواس ويهمل ما توحي به إلى الفؤاد، وهكذا يكون الجزء الفاعل مأمورا والجزء المنفعل أمرا.
 
يشير روسو إلى أن ضمير الإنسان يطيع أوامر الطبيعة ويعاكس كل قوانين البشر، ولأن العناية بالنفس من أولويات الإنسان، فإن هذه العناية تكمن في الإنصات إلى صوت الضمير، لأن هذا الأخير منبعث من الروح ولا يخدع أبدا على عكس صوت الجسد والذي تمثله الشهوة. وإذا كان الإنسان طيبا بطبعه فلا يكون سليما عقلا وجسدا إلا إذا تحلى بالطيبوبة، أما إذا كان الشر من جبِلّة البشر فلا ينفك عنه إلا بفساد خلقه، وستصبح الطيبوبة عيبا فيه، وستكون الفضيلة هي التي تستوجب الندم، وإن صح أن الخير خير فمن الواجب أن يكون كذلك في أفعالنا وقلوبنا.
 
يتجلى فضل الإنسان في عطفه على بني جنسه، وفي كونه لا يطلب السعادة له بل لغيره أيضا، وقدرته على الشفقة على من خانهم الحظ حيث يتألم لحالهم، وهذه العاطفة لا يتنكر لها حتى أنذل المجرمين، فيناقضون بها منطق سلوكهم العام. ويشير روسو إلى أن نفس المفاهيم عن العدل والمروءة ونفس التعريف للخير والشر توجد عند جميع الناس، وهناك مبدأ يولد في سر النفوس، وعلى ضوئه يحكم الفرد -ولو صُدم ذلك بميوله الشخصية- على تصرفاته وتصرفات غيره، هذا الحكم هو الذي يضفي عليها قيمة أخلاقية، هذا المبدأ يسمى الضمير.
   
 undefined
  
لا تكفي معرفة الخير حتى يحبه الإنسان، ذلك أنها ليست جبلية فيه، لكن بمجرد ما يتبينه عقله ينجذب إليه ضميره، وهذا الشعور مطبوع في الكائن البشري، ومن هنا أشار روسو إلى أن وجود الإنسان يتمثل في شعوره، هذا الأخير سابق على الفكر، ذلك أن الإنسان يشعر قبل أن يفكر، إذ أن الإحساسات والعواطف مطبوعة في الإنسان، والتي تخص الفرد هي حب الذات وتجنب الألم واستفظاع الموت والتطلع إلى السعادة. وإذا كان الإنسان مؤهلا لأن يكون اجتماعي بتعبير روسو فتحقيق ذلك رهين بأن تكون عواطفه مطبوعة تجاه النوع البشري.
 
يميز روسو بين الفكر المكتسب والشعور الفطري، ذلك أن الشعور سابق على العلم، والإنسان لا يقصد الخير ويعرض عن الشر بالتعلم بل بعزيمة أودعتها فيه الطبيعة. ولقد اعترفت الإنسانية بوجود الضمير كأساس للأخلاق، إذ يكفي أن يكتفي الإنسان بما يستشعره أول الأمر من نفسه، ثم يعود إليه دائما بعد النظر ما دام العقل يسير على الطريق السوي، لأن الإنسان يميز الخير من الشر بالضمير، ولولاه لما شعر بأي تفوق على الحيوان. وأشار روسو إلى أن طبيعة الإنسان الفطرية تُخول العيش دون أن يكون عالما، ولذلك يدعو روسو إلى أن الإنسان ليس في حاجة لدراسة الأخلاق لأنها متأصلة فيه.
 
تساير ميول الإنسان العدل والحق، كما أن الرذائل بدورها تنشأ منه، ويتساءل روسو لماذا يلوم الإنسان الرب على الشرور التي تُولّدها أفعاله؟ وإذا كف الإنسان عن إفساد الإنسان فإنه سيكون طيبا بلا تكلف وسعيدا بلا ندم. كما أن الضعف الذي يشكو منه الإنسان متأصل فيه، وهو الذي اختار السوء، وإصراره على الرضوخ للمغريات هو الذي جعله ينجرّ إليها رغما عنه في النهاية، وأضحى يعيرها قوة لم يعد قادرا على مقاومتها.
 
يرى روسو بأن الإنسان يبقى متعطشا دوما للسعادة دون أن يدركها، وينخدع بالحواس، فيتعلق بصورة تافهة يظن أنها ضالته، في حين أنها سراب محض. ويذهب روسو إلى أن أتم أنواع السعادة هو عندما يشعر الإنسان بأنه مشمول بنظام كله خير، وإذا أراد الإنسان الارتقاء قدر الامكان إلى درجة من البهجة والحرية فيجب أن يروض ذاته على تأمل أعلى مراتب الخلق، والتفكير في نظام الكون، لا بهدف تأويله حسب نظريات عميقة، بل ليزداد إعجابه بحكمة صانعه. ولعل أسمى صورة يكونها الإنسان عن الخالق يكونها بالعقل وحده، وكل تلك المكتشفات التي قام بها الإنسان لم تفعل سوى الحط من قدر الخالق.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.