شعار قسم مدونات

"صينية رمضان".. ملامح الشهر الفضيل في السودان

مدونات - رمضان في السودان

يحل في بلدي السودان شهر رمضان عادةٍ قبل أوانه بكثير، فقبل شهر او أكثر من بداية الشهر الفضيل تبدأ التجهيزات له وتعبقُ شوارع الاحياءَ برائحة الحلو مُر الزكية خصوصًا في الأرياف ومدن السودان المختلفة وأطراف العاصمة الخرطوم ففي مثل هذا الأيام تنشط تجمعات الحبوبات (الجدات) والأمهات والخالات والعمات من ربات البيوت سواء كانت تلك التجمعات عائلية او تجمعات أهالي الحي الذين تربطهم ببعضهم روابط الجيرة والسكن.
 
في يوم يحدد من قبلهن تتجمع النسوة في منزل إحداهن حتى يتبادلن في الجلوس على بنبر (مقعد) صاج العواسة فيعاونن بعضهن حتى تلبي كل واحدة منهن حاجتها وكفايتها من الحلو مُر لشهر رمضان؛ فإن كُنت غريب -غير سوداني- ومررت بالقرب من منزل يُعاس فيه الحلو مُر لقلت أن حريق قد شب في هذا المنزل خاصة عندما ترى بأم عينك الدخان الكثيف يتصاعد من التُكل (اسم للمطبخ السوداني القديم ) ولكن عندما تِسترق السمع ستجد أن لا صراخ يخرج من داخله وسيأتيك صوت النسوة وهن يتجاذبن أطراف الحديث ويتبادلن الضحكات فيرتفع حاجباك من فرط الدهشة والتعجب فعيناك التي ترى الدخان المتصاعد تقول أنهُ حريق وأُذنك التي تسمع الحكاوي والضحكات تقول أن من يحترق بيته ويكتوي جسده لا تصدر منه مثل تلك الضحكات والحكاوي وإنما الآهات والصراخ والعويل ! واما أن كُنت -زول- سوداني ومررت بجانب منزل يُعاس فيه الحلو مُر؛ ستقف في مكانك برهة من الزمن وتكتفي بأخذ نفس عميق لتجذب رائحة الحلو مر الزكية إلى أُنفك وتستنشقها المرة تلو المرة، فرائحته الزكية لا تقل عن عطر العود وياسمين الشام حلاوة، ومن ثم تواصل سيرك إلى وجهتك التي تقصدها.

 

ففي رمضان لا يخلو منزل في السودان من الحلو مُر مهما كان الوضع الذي يعيش فيه صاحبه فإن كان يعيش في رقد من العيش أو في فقر مدقع وسواء كان يسكن في شرقه أو غربه أو شماله أو وسطه أو جنوبه الذي أنفصل وأصبح دولة قائمة بذاتها تحت أسم دولة جنوب السودان، حتى منازل أولئك السودانيين من المهاجرين والمغتربيين بالخارج لا تخلو ايضا منه فدائمًا ما تحرص أسرهم وعائلاتهم في السودان على إرساله لهم حتى يكون رمضانهم بنكهة الحلو مُر وليدل على سودانيتهم بين بقية الأجناس المختلفة من خلال وجوده على مائدة إفطارهم.

 

تتكون صينية رمضان من أكلات سودانية شعبية معروفة كالعصيدة والقراصة والكسرة وملاح الويكة وملاح الروب وملاح البامية المفروكة ومن البليلة بجميع أنواعها

وليس فقط الحلو مر الذي يتم تجهيزه وإعداده لرمضان باكرا ولكن لطبيعة صعنه التي تحتاج لعدة أيام حتى يكون جاهزا بداية من غسل الذرة وتزريعها حتى تنبت في جوالات الخيش الرطبة وتركها تحت أشعة الشمس حتى تجف ثم طحنها لتصبح دقيق ثم عجنهِ ليتخمر وتضاف إليه البهارات إلى أن يصبح جاهزًا للعواسة وبعد أن يُعاس يترك حتى يجف ليصبح جاهزا للتحضير والشراب. وتنشط أيضًا في مثل هذه الأيام المباركات الجمعيات والمنظمات الخيرية -من شباب وطني السودان- في جمع التبرعات من الخيّرين لشراء كيس الصائم الذي يحتوي على مواد تموينية ليوزع قبل رمضان على الأُسر الفقيرة والمُتعففه وهذا إن دل على شيء فأنه يدل على قيم المجتمع السوداني التي -هي- في أصلها قيم توادد وتراحم وتكافل.

 

أما حينما يهل هلال شهر رمضان فذاك شيء آخر فتحل معه البركة والرحمة حتى في تلك الشمس التي كانت قبل قدوم الشهر الفضيل تشوي الوجوه من شدة حرارة هجيرها تجدها فجاءة كأنها جمرة قد تم وضعها في ماء بارد وكأن هناك قوة خفية أبطلت مفعول حرارتها تلك، فيعتدل الجو رحمة من الله بعباده الصائمين. وفيه تعمر بيوت الله بذكره وبحلقات تلاوة القرآن وتكثر الزيارات بين الأهل وتُعد الموائد لتُحمل – صواني- الإفطار خارج المنازل في (البرش) المكان الذي يجتمع فيه أهل الحي بالقرب من الشارع ويضعون عليه طعامهم حتى إذا وجدو إنسان مارا في الطريق دعوه ليفطر معهم ويحلل صيامه، فالخروج إلى الشارع بصينية الإفطار عادة سودانية أصيلة متوارثة منذ قديم الزمان جيل بعد جيل في جميع أنحاء السودان في المدن والارياف، فأحيانا يتم قفل الشوارع والطرقات أمام المارة وسائقي السيارات ليس بحواجز مرورية ولكن بحواجز بشرية حتى يجبروا سائق كل سيارة على التوقف -وأن كره ذلك- فأن تحجج بأنه على عجالة من امره ولم يحين وقت الإفطار بعد أعطوه ما يحلل له صيامه في الطريق واما أن كان بعد وقت الإفطار فيحضرون له ما يحلل به صيامه وهو فوق سيارته وبعدها يسمحون له بالمرور.

 

تتكون صينية رمضان من أكلات سودانية شعبية معروفة كالعصيدة والقراصة والكسرة وملاح الويكة وملاح الروب وملاح البامية المفروكة ومن البليلة بجميع أنواعها (العدسية واللوبيا والكبكبي) ومن التمر وأما أنواع العصائر التي تحضر فهي الحلو مُر والعرديب والكركدي والقنقليز (التبلدي) وبقية الفواكه المعروفة للجميع.

 
فكما نقول نحن السودانيين رمضان أحلى في السودان فإن صومه لا يطيب لنا إلا فيه، فلا تصلح حلاوته -تلك- للوصف ولكنها تصلح للتجربة!

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.