شعار قسم مدونات

من شابه أباه فقد ظلم!

blogs الأبوة

ترتجف يداه بينما يتقدم في تردد واضح وقلق باد الملامح على أواصله المرتجفة رعبا وخوفا فاليوم هو نتاج سنينه الدراسية الطويلة التي أمضى لياليها الطويلة ساهرا يعاني شبح الإرهاق حينا وغول الرهبة والخوف أحايين أخرى ضريبة لطالما كان سعيدا لدفعها بغية تحقيق حلمه الذي لطالما داعب مرقده ومهجعه أياما وليال عديدة فلطالما كانت منظر الإعلاميين بكلماتهم المنمقة ولغتهم القوية ودرايتهم الواسعة محفزا له.

 

تلمع أعينه عندما تطالع أحدهم في نشرة الأخبار حينا واحد البرامج الحوارية في أحايين أخرى بينما كان يؤمل نفسه يوما أن يحل في موضع شبيه بذلك حلم تحطم على عتبه والده فهو الذي كان يمني نفسه بابنه الطبيب الذي يباهي به الرجال من أقربائه ومعارفه فكيف لنتيجة ابنه المرتفعة التي تخوله لدخول كلية الطب أن تذهب هباءا من وجهة نظر والده في كلية الإعلام أو الأداب أو غيرها من الكليات التي لا يعتبرها كليات من كليات القمة بأي حال من الأحوال حاله كحال الكثيرين. مشهد لربما أصبح متكررا روتينيا معهودا فكلما اقتربت نهايات السنة ونهاية المرحلة الثانوية التي يتطلع فيها الأبناء لتلك المرحلة الجديدة والتحدي القادم من حياتهم حتى يقف بعض الأباء سدا منيعا أمام طموحات أبنائهم وآمالهم التي لطالما عجت بها دواخلهم وتزينت بها أحلامهم منذ طفولة بكرية إلى شباب غض وفتي للتحطم على عتبة السلطة الأبوية ومذبح الغصب والإلزام تزف وتسفك فيها ألاف الأحلام كل سنة في منظر جماعي كئيب.

"لا تكرهوا أولادكم على آثاركم، فإنهم مخلوقون لزمان غير زمانكم" تلك المقولة المتداولة فنسبت لسقراط حينا ولأفلاطون أحايين أخرى بينما ألحقها ونسبها البعض لسيدنا علي رضوان الله عليه وإن ضعف ذلك ولم يرجح نقلها أو نسبها للخليفة الرابع علي ابن أبي طالب رضوان الله عليه ورغم اختلاف الآراء في نسبها واختلافهم في لفظها إلا أن الأمر الوحيد الذي أجمع عليه المختلفون هو صحة القول ورجاحه منطقه وقوته ولكن يبدو أنه الأمر لا ينطبق على الجميع ممن يتفقون على صحة تلك المقولة.

يصبح ابن الطبيب طبيبا بالوراثة وابن المهندس قد حدد مستقبله مسبقا قبل أن يحل ضيفا على هذه البسيطة، ويكبر فيها الطفل الصغير وتكبر معها تطلعات أبيه وأمه لتحقيق ذلك الحلم الذي راودهما يوما

مقولة تبدو أنها لا تنطبق ولا يرى فيها بعض الأباء أي نوع من الصحة ولا ضربا من الدقة فينتهون إلى صناعة نسخ طبق الأصل عن أنفسهم مجبرين أبناءهم وفلذات أكبادهم على خوض ذات الطريق التي خاضوها وذات السبل التي سلكوها طامسين شخصية أولئك الأبناء ليخرجوا للمجتمع أفرادا ذوي شخصية هشة ضعيفة ورخوة بعيدا عن الضرر النفسي والذي يصيب ذلك الطفل خلال مراحل حياته المختلفة منذ طفولته الرخوة إلى مراهقته المضطربة بتقلباتها إلى شبابه المتذبب نتيجة للمرحلتين السابقتين.

نحن لا نتحدث هنا عن تلك النصيحة الأبوية التي غالبا ما تكون مفقودة نتيجة لطمس شخصية الابن وغالبا ما يكون اختيار المجال الدراسي أو الجامعي أحد تلك التداعيات والقرارات التي سلبت فلم يجد الابن بدا من تطبيقها بحذافيرها بعيدا عن إنشاء فرد قادر على اتخاذ قرار مستقل لكن نتحدث عن تلك الحالة من الإلزام الأبوي واستخدام مصطلحات كـ "أنا أدرى وأعلم بمصلحتك منك" انتهاء ووصولا لذلك السلاح الذي يستخدمه بعض الأباء بعدم العفو إن هو أصر على اتخاذ قرار منفرد ومستقل وهو حالة نادرة قليلة الحدوث من قبل شخصية مطموسة المعالم ممحوقة الرأي فإن تجرأ يوما وتشجع حينها محاولا إبداء رأيه اتهم بالسوء وحتى قلة الأدب.

فيصبح ابن الطبيب طبيبا بالوراثة وابن المهندس قد حدد مستقبله مسبقا قبل أن يحل ضيفا على هذه البسيطة يكبر فيها الطفل الصغير وتكبر معها تطلعات أبيه وأمه لتحقيق ذلك الحلم الذي راودهما يوما بابنهما الطبيب الحاذق أو المهندس الماهر أو المحامي الذي يفك أواصل أعتى القضايا وأشدها فبينما يرى البعض ابنه فرعا متفرع من تاريخه المجيد في أحد المهن يرى البعض الأخر في أبنائهم الحلم الذي لم يتحقق والأمل الذي فشل في تحقيقه فيقوم بتكريس كل أحلامه وامانيه في صورة ابنه طامسا وملغيا أحلام ابنه التي نمت وكبرت يوما بعد يوم في دواخله.

جولة سريعة واستفتاء خاطف على مجموعة من الخريجين الجامعيين ستكشف لك عن كمية الأحلام الموءودة والأماني المبتورة تعلوا وجوههم الفتية ابتسامة تحمل من السخرية قدرا لا بأس به ونظرة تتجلى فيها معاني الألم بين طموحات وآمال وأحلام وبين واقع وإن كان ممتازا في بعض الأحيان لكنه يفقد ذلك الإشراق الذي يتجلى في وجه محب أو تلك النبرة التي تنم عن سعادة وشغف بما يحب ويعمل لتحل محلها كأبة طاغية ونبرة منكسرة حزينة وهمهمات تفيد بعدم الرضى أو رضى مصطنع تكذبه الأحداق وتكشفه النبرة المهتزة الخالية من أي إحساس بالإنجاز. الأمر الذي كان من الضرر بمكان على ساحة الفرد والأسرة وحتى المجتمع فكان نتاج هذا الإلزام ولوج ألاف بل ملايين الشباب العرب على مدار عهود من الزمن مجالات مختارة ومفصلة بدقة على أحلام وآمال أهاليهم لا أمالهم وأحلامهم هم فخرج لنا أفراد عديمي الطموح شديدي البؤس نتيجة لفرض مجال لا تستسيغه أنفسهم ولا تكبره عزيمتهم ولا يملكون تجاهه أدنى درجات الشغف والمودة فيخرجون منه كما دخلوه صفرا لا يتعدى ما قام به أداء واجب لا أكثر ونزولا عند رغبة والده.

أما على سبيل الأسرة فخرجت أسر مفككة مليئة بالصدامات والالتحامات لطموحات مؤجلة وطموحات مشروعة تتزاحمان في نفس لا تتسع لكلاهما فإن انتصرت إرادة الأب خرج لنا أرباب أسر ناقمون مسلوبو الهوية منعدمو الطموح ينقلون ويتوارثون فيروس الأحلام الموروثة فينقلون أحلامهم التي حطمت على أيدي أبائهم إلى أبنائهم في سلسة لا تنتهي من الأحلام المحطمة والآمال المهمشة. أما على سياق المجتمع فنتاجه واضح للعيان شديد البيان تتدحرج فيه المجتمعات العربية بلا رادع يردعها ولا حاجز يحجزها فلا تقدم ولا تطور ولا إنجاز يرجى من أفراد لم يكونوا يوما أسياد قرارهم ولا أصحاب أحلامهم فزج بهم إلى أحلام غيرهم عنوة فتعثرت بها خطواتهم واندثرت أمامها طموحاتهم فخرج لنا جيل يعمل ما لا يحب ويزاول طول حياته البائسة الكئيبة لعمل يبغضه فينعكس سواده مجمتعا كئيبا بائسا وغير منتج.

الأبوة لطالما كانت عبارة عن توارث وتتابع وتمرير للأفكار والخبرات من جيل إلى جيل ولكنها لم تكن يوما عبارة عن إنتاج نسخة طبق الأصل عن جيل مضى
الأبوة لطالما كانت عبارة عن توارث وتتابع وتمرير للأفكار والخبرات من جيل إلى جيل ولكنها لم تكن يوما عبارة عن إنتاج نسخة طبق الأصل عن جيل مضى
 

يقول جبران خليل جبران: "أولادكم ليسوا لكم أولادكم أبناء الحياة المشتاقة إلى نفسها" فالأولى بالأباء إعداد أبنائهم للحياة بمصاعبها وتقلباتها وتنمية القدرة لدى أبنائهم لاتخاذ قرارتهم المستقلة والتي ستنتهي بهم لتكوين حياتهم مستقبلا وهم الذين سيعانون ويكابدون ويلات تلك القرارات ولا أحد سواهم ولا بأس من إبداء النصح والتوعية في نوع من تمرير الخبرات والتجارب لينتج عنها جيل واع منتج وفاعل لا جيل منهزم ضعيف ومهزوز يكون الجاني فيه هم أقرب الأقربين وأحب الأحباء.. الأب. كثيرون هم الذين كانوا ضحية لذلك النوع من الأباء الذي انتهى به الأمر لطمس شخصية ابنه فكان نتاج إفراط في الحماية أو العناية أو حتى غصبا وإلزاما وكان أحد أولئك الضحايات الكاتب التشيكي الشهير فرانز كافكا الذي خطت يداه أحد أشهر الرسائل في التاريخ حيث خط في 45 صفحة رسالة إلى والده القاسي هيرمان كافكا وطبعت في كتاب كامل يعاتبه فيها قائلا:

الوالد الأعز سألتني مرة مؤخراً لماذا أدعي أنني أخاف منك ولم أعرف كالعادة أن أجيبك بشيء من طرف بسبب هذا الخوف نفسه الذي استشعره أمامك ومن طرف لأن تعليل هذا الخوف يتطلب تفاصيل أكثر مما استطيع أن اجمّعه إلى حدّ ما في الكلام وعندما أحاول هنا أن أجيبك كتابة فلن يكون الأمر إلا ناقصا كل النقص وذلك لان الخوف ونتائجه يعيقني إزاءك في الكتابة أيضا". ثم يواصل قائلا: "كنت دائماً تقمع بلا وعي قدرتي على اتخاذ القرار وتظن الآن بلا وعي أنك تعلم ما كانت قيمة هذه القدرة و منها محاولاتي لإنقاذ نفسي في اتجاهات أخرى لكنك ببساطة لم تكن تعلم شيئاً أنك كنت دائما تقبض عليّ أو بالأصح تقمعني وذلك دون أن تعرف الأمر". فالأبوة لطالما كانت عبارة عن توارث وتتابع وتمرير للأفكار والخبرات من جيل إلى جيل ولكنها لم تكن يوما عبارة عن إنتاج نسخة طبق الأصل عن جيل مضى في جيل جديد الصورة قديم المعالم.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.