شعار قسم مدونات

المكتبة البشرية تضم لاجئين ومثليين ومسلمين!

BLOGS المكتبة البشرية

المكتبة البشرية بادرة قامت بها منظمة (أوقفوا العنف) الدنماركية التي أنشأتها مجموعة شبان دنماركيين في أوائل تسعينات القرن الماضي، وفي عام 2000 ميلادي طلب من المنظمة الاشتراك في مهرجان روسكيلدا الموسيقي الذي يعد واحداً من أكبر المهرجانات الموسيقية في أوروبا من خلال تقديم مشروع إنساني ضمن فعاليات المهرجان فكانت فكرة المنظمة متمثلة بتجهيز مكتبة بشرية تهدف إلى -حسبما تزعم المنظمة- محاربة العنف والدعوة إلى خلق حوار بين أفراد المجتمع.

 

حيث تقوم الفكرة على استبدال الكتب الورقية بأخرى بشرية! واستبدال القارئين بالمستمعين ويقوم كل "مستمع" باستعارة "الكتاب" الذي يريد التحدث معه وتدور بينهما جلسة حوارية لمدة زمنية معينة يستطيع من خلالها "المستمع" طرح الأسئلة كما يحلو له ويتوجب على "الكتاب البشري" أن يجيب على كافة الأسئلة ومن ثم يقوم "المستمع" بإعادة "الكتاب البشري" والقيام باستعارة كتاب جديد! هل يمكن لأي شخص أن يتحول إلى كتاب بشري؟ كلا، حيث يتم انتقاء الكتب البشرية من ضمن جماعات تتعرض للاضطهاد أو أن يكونوا أشخاصاً قد وقعوا ضحايا لصور المجتمع النمطية السيئة عنهم. على سبيل المثال -وكما بدا من خلال المشتركين في هذه المكتبة على مدار السنين- ذوي الاحتياجات الخاصة والمثليين واللاجئين والمتسولين والمسلمين!

في الوقت الحالي تعنى منظمة Human Library Organization بتنظيم هذا الحدث تحت شعار (لا تحكم على الكتاب من غلافه) وتتغنى المنظمة المذكورة بأهدافها المتمثلة بوضع أطر إيجابية لخلق تتحدى الصور المجتمعية النمطية والكبرياء البشري ويتيح الفرصة لحوارات عميقة ويسمح للمستمع بطرح أسئلة صعبة على كتبه البشرية! أيةُ محاربة للكبرياء تلك التي تعطي الحق لأفراد المجتمعات المتطورة بتصنيف الناس كيفما اتفق واختيار من هم برأيهم أقل درجة وحظوة منهم؟ واستباحة خصوصياتهم ومشاعرهم بجلسة حوارية يحلوا لهم فيها توجيه أشد الأسئلة خصوصية على "الكتب البشرية " ومن ثم إعادتهم إلى المكتبة كما تعاد الكتب إلى الرفوف والانتقال إلى ضحية مجتمعية أخرى وكتاب بشري آخر؟!

يبدو أن القائمين على المكتبة البشرية وجودوا فيَّ الصفات المناسبة من حيث العرق والدين وغطاء الرأس وهي الصفات النمطية لأية لاجئة بنظرهم ضاربين بعرض الحائط المبدأ الأساسي وهو محاربة الصور النمطية!

يبدو أن هذا المفهوم هو النسخة المستحدثة عن ظاهرة Human zoo أو كما تسمى بالعربية "حديقة الحيوان البشرية" ولها بعض التسميات الأخرى مثل مستعمرات الزنوج أو المعرض العرقي ethnological exposition. تلك الفضيحة الأخلاقية التي انتشرت ما بين القرن التاسع عشر وأواسط القرن العشرين حين قامت قوى الاستعمار بجلب "عينات بشرية" من إفريقيا وآسيا وأمريكا الجنوبية وأستراليا إلى حدائق الحيوان في عدة مدن في العالم وإلى القارة الأمريكية بعد ان استوطنها الأوربيون لعرضهم كأمثلة عن الإنسان البدائي والأقل تفوقاً! وكان يعرض إلى جانبهم الأقزام وأصحاب الأمراض الجلدية والتوائم السيامية وغيرهم! ويقدر عدد الزائرين في فرنسا وبلجيكا في حوالي 40 ألف زائر في اليوم الواحد! يمكن الاطلاع على التفاصيل المريعة لهذه الظاهرة في مقالات عديدة وتسريبات لصور موجودة الآن على مواقع الانترنت والتي لم يتسن لوسائل الإعلام حينها نقلها وتغطيتها وظلت حتى يومنا هذا طي الكتمان والنكران!

أعمل في أحد دول العالم المتقدم في منظمة دولية إنسانية تقيم مشاريع خيرية وتنموية في عدة دول في العالم. وفي آذار مارس الماضي طلب مني المشاركة في حدث تقيمه إحدى أكبر وأهم الجامعات الخاصة في هذا البلد، الحدث تحت مسمى (المكتبة البشرية). وقد طلب مني حينها المشاركة في الحدث ك "كتاب بشري" للتحدث عن اللاجئين وعما يتعرضون له من متاعب وصعاب علماً أنني نفسي لست بلاجئة! ولكن يبدو أن القائمين على الحدث قد وجودوا فيَّ الصفات المناسبة من حيث العرق والدين وغطاء الرأس وهي الصفات النمطية لأية لاجئة بنظرهم ضاربين بعرض الحائط المبدأ الأساسي الذي يقوم عليه الحدث نفسه ألا وهو محاربة الصور النمطية! ولكن "المستمع" بنظرهم لن يُعنى بوضع إقامتي طالما أني عربية ومسلمة محجبة!

استهجنت الفكرة بشدة ورفضت المشاركة بهذا الحدث الذي تتباهى به تلك الجامعة العريقة على أنه خطوة مهمة نحو مجتمع أكثر انفتاحاً وتقبلاً للآخرين! وقد قمت بعد شهرين من رفضي المشاركة ومن باب الفضول بالعودة إلى موقعهم وتصفح الإعلان الخاص بهذا الحدث فوجدت وكما توقعت أن معظم "الكتب البشرية" المشاركة في الحدث هم إما مثليون جنسيون أو مرضى بأمراض مزمنة أو ذوي احتياجات خاصة ولاحظت وجود فتاة مسلمة آسيوية بينهم! يبدو أنها هي الأخرى قد وقعت ضحية للعبارات الرنانة التي يتغنى به القائمون على الحدث والتي لا تختلف فعلياً عن العبارات الرنانة والمبادئ الإنسانية المزيفة التي يخبئ قادة دول العالم الأول خلفها غرورهم وأطماعهم ونظراتهم الدونية لغيرهم من سكان الدول الأخرى.

زج المسلمين واللاجئين في مثل المكتبة البشرية ما هو إلا دليل على نظرة الغرب والمجتمعات المتقدمة عموماً للمسلمين والعرب وعلى من نالت الحروب من بلدانهم
زج المسلمين واللاجئين في مثل المكتبة البشرية ما هو إلا دليل على نظرة الغرب والمجتمعات المتقدمة عموماً للمسلمين والعرب وعلى من نالت الحروب من بلدانهم
 

وقد رضيت هذه الفتاة المسلمة أن يتم التعامل معها كما يتم التعامل مع أصحاب الأمراض المزمنة وذوي الاحتياجات الخاصة والمثليين جنسياً وكأن دينها ما هو إلا نقطة ضعف وعار لها بين الناس! وكأنه يتوجب عليها الدفاع عن حقوقها تماماً مثلما يدافع المثليون عن حقوقهم في الدول المتقدمة أو كما يحاول ذوو الإعاقات التعايش مع مجتمعاتهم! علماً أن هذا التشبيه لا يعني أية نظرة دونية لذوي الاحتياجات الخاصة حيث أني أرى أن الإعاقة الحقيقية هي في المجتمع الذي يرفضهم قبل أن تكون فيهم. ولكن يبدو أن القائمين على هذا الحدث وجدوا الكثير من النقاط المشتركة بين ذوي الإعاقة والمثليين وأصحاب الأمراض المستعصية من جهة والمسلمين واللاجئين أو الهاربين من الاضطهاد السياسي والإنساني من جهة أخرى. ويبدو أن هذه الفتاة المسلمة لم تعي أبعاد قبولها المشاركة في هذا الحدث للأسف.

لم أجد حقيقة فرقاً كبيراً بين المكتبة البشرية وبين حديقة الحيوان البشرية من حيث الهدف والتطبيق! فكلتاهما تشتركان بعرض العينات البشرية كحالات غريبة لدراستها! وبدلاً من أن نقوم بالتعايش مع مختلف البشر نقوم بتصنيفهم وجلب الغريب بنظرنا منهم وتسليط الضوء عليهم باعتباره مكوناً غريباً في المجتمع أو باعتباره ينتمي لعرق أو دين لا يتناسب برأينا مع معطيات عصرنا بحيث يمكن لأي مواطن "متحضر" استعارتهم وسبر أعماقهم واقتحام خصوصياتهم ومشاعرهم بدافع الفضول ومن ثم إعادتهم إلى المكتبة واستعارة كتاب بشري جديد!

إضافة إلى أن زج المسلمين واللاجئين في هكذا حدث ما هو إلا دليل على نظرة الغرب والمجتمعات المتقدمة عموماً للمسلمين والعرب وعلى من نالت الحروب من بلدانهم، ولا يسعنا هنا إلا الاعتراف بالخزي والذل الذي وصلنا له اليوم. ويبدو للأسف أن نزعة التفوق عند سكان العالم المتقدم -وإن لم تسمح لها مبادئ العصر الحديث بالظهور بشكل واضح- إلا أنها سوف تظل كاللعنة تلاحق الجنس البشري وكل مرة تحت مسمى جديد يتناسب مع مقاييس عصره فمرة كحديقة حيوان ومرة كمعرض ومرة كمكتبة! فماذا ستكون المرة القادمة؟!

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.