شعار قسم مدونات

الحزن والشوق للمسرى الأسير

blogs القدس

ودّعت القدس في 1994 وسيطر علي شعور بأن غيابي عنها سيطول؛ غادرتها والضاحية/البلدة الملاصقة لها  (أبو ديس) وفعلا طالت فترة غيابي عن المدينة كثيرا، فقد دخلتها في 2013 في رمضان؛ أي أنني عدت إليها عودة قصيرة، بعد حوالي 20 سنة، وكم تغيرت أحوالي الشخصية وكم حلّ بك يا قدس من تغيرات! كان دخولي التالي للمدينة في العام الماضي 2017 أيضا في رمضان، أما الأخير-وإن شاء الله ليس الآخر- ففي ليلة السابع والعشرين من رمضان الذي ودعناه قبل أسبوعين(1439هـ).

 

الساحات والأروقة والمصليات تعج بالقادمين من شتى أرجاء الضفة الغربية المفصولة بالجدار اللئيم عن القدس، ولكن عشق الشباب وشعورهم بالتحدي، يدفع عددا منهم إلى التسلق بالحبال والسلالم والمخاطرة والنزول من على الجدار البالغ طوله أحيانا 8 أمتار، ولكن التسلق والقفز لا يعني النجاح دائما فالدوريات الإسرائيلية تترصد، وكثيرا ما يقفز الشاب ليجد نفسه معتقلا بين أيدي جنود الاحتلال.

 

ومعبر قلنديا يمثل صورة من صور الإذلال والمعاناة؛ يسير الناس بين ممرات اسمنتية وحديدية، وقد تحدث صدامات واحتكاكات مع جنود الاحتلال بمزاجيتهم وساديتهم، وحين تصل إلى الجندي أو المجندة، يُسمح لك بالعبور إذا كان عمرك 40 (وأحيانا 45) وهذا فقط أيام الجمع الرمضانية وليلة القدر، ولكن بعض الرجال يتم فحصهم عشوائيا وعمرهم 60 يتم منعهم للسبب المشؤوم (المنع الأمني)، إضافة إلى من يحملون تصاريح خاصة للصلاة.

 

دخلنا المسجد الأقصى الذي كان مكتظا بالمصلين رجالا ونساء من مختلف الأعمار؛ في المصليات كالمرواني والمسجد القبلي المخصصة للرجال، ومسجد الصخرة الذي خصص للنساء

وتجتاز الممرات وفق أمزجة نقاط التفتيش في المعبر إلى ساحة تتجمع فيها حافلات النقل إلى منطقة قريبة من المسجد الأقصى (الشيخ جراح، أو باب العامود، حسب الاكتظاظ) ولكن عليك الانتظار وسماع صراخ الجنود حتى تحظى باستقلال حافلة، وعادة يحدث زحام وتدافع.

 

وفي رحلتي الأخيرة رفع أذان المغرب ونحن لمّا نجتز المعبر أنا وابنتي منى (أقل من 13 عاما) وابني نصر الدين (9 أعوام) فقام بعض الإخوة بتقديم التمر لنا لنفطر، وبعد اجتياز نقاط التفتيش وبانتظار ركوب الحافلة كان الاكتظاظ والانتظار الطويل، فصلينا المغرب في ساحة قريبة من المكان.. وأخيرا، ركبنا الحافلة التي وصلت مع صلاة العشاء، وتناولنا سندويشات من محل قريب من المسجد، والسعر مرتفع جدا مقارنة مع المناطق الأخرى، ولكن مع ذلك قلت لنفسي وللأولاد: لا بأس، فصاحب هذا المحل الفلسطيني المقدسي ملاحق في رزقه ومعيشته وأكيد ترهقه الضرائب، ولا شك أن ملايين الدولارات تعرض عليه لبيع محله وكونه يرفض يعني أن نعتبر الشراء منه ولو بالثمن الباهظ دعما لصموده.. وعلى ذكر البيع فإن ثمة بسطات بضائع مختلفة قريبة من المسجد الأقصى تبيع بأسعار معقولة وواضح أنها موسمية خاصة لجذب القادمين من الضفة.

 

دخلنا المسجد الأقصى الذي كان مكتظا بالمصلين رجالا ونساء من مختلف الأعمار؛ في المصليات كالمرواني والمسجد القبلي المخصصة للرجال، ومسجد الصخرة الذي خصص للنساء وانتشرت طواقم متطوعين وموظفين لتوجيه الرجال بتركه للأخوات المصليات، إضافة إلى الساحات وتحت أشجار الزيتون يصلي الناس صلاة العشاء والتراويح وبعد فترة استراحة صلاة القيام.

 

وقلة عدد دورات المياه مقارنة بهذا العدد من المصلين مشكلة كبيرة، وكنت قد سألت وعثرت خارج المسجد على دورة مياه بأجرة تجنبا للاكتظاظ والانتظار، وبعض من عرف قالوا بأنهم على استعداد لدفع هذه الأجرة ولكن لا يعرفون بوجود شيء كهذا أو سمعوا به ولا يعرفون طريقه. وسبب هذه المشكلة ليس كثرة الناس فقط، بل الاحتلال وسياساته السبب الرئيس؛ فالاحتلال يعرقل أي إعمار أو ترميم أو تجديد في المباني والمرافق، وإلا فالأموال كثيرة من المتبرعين، دولا ومؤسسات وأشخاص.. مشكلتنا ليست المال بل الاحتلال.

 

وتلقائيا تحضر المقارنة بين الحرمين الشريفين من حيث الخدمات وما شابه وبين الوضع في المسجد الأقصى، وقدر لي خلال بضع سنين خلت تأدية العمرة عدة مرات والحج مرة في مواسم مختلفة منها عمرة رمضان، فأستطيع إدراك الفارق.. ولكن بعد أن نتحدث عن حالة الحرمين وحالة المسجد الأقصى، نستدرك بحزم بأن الأقصى لو لم يكن أسيرا لكانت المرافق الصحية ودورات المياه تكفي وتزيد، ولكان هناك طوابق للمصليات، وسلالم كهربائية، وحركة مرور أسلس عبر الأبواب وغير ذلك، حتى لو جاء كثير من المسلمين للصلاة هنا، وبالنسبة لنا كان كثير منا سيختار أوقاتا الزحام فيها أقل ما دامت المدينة مفتوحة لنا على مدار الساعة.. مساحة المسجد الأقصى 144 دونم (الدونم 1000 متر مربع) وهندسيا يمكن استغلالها وتنظيمها لتستوعب الأعداد الكبيرة.. ولكن أنّى هذا والأقصى أسير ومحاصر وتحته وحوله تحفر الأنفاق وتبنى الكُنس؟

 

في أزقة وحواري وأسواق القدس مثل خان الزيت ترى المستوطنين من ذوي القبعات والشعور المتدلية يتحركون بكثرة، فرادى وجماعات، والكاميرات مثبتة في كل مكان
في أزقة وحواري وأسواق القدس مثل خان الزيت ترى المستوطنين من ذوي القبعات والشعور المتدلية يتحركون بكثرة، فرادى وجماعات، والكاميرات مثبتة في كل مكان
 

وإن كانت الصلاة في الحرمين عدا أجرها المضاعف تحمل نوعا من الشعور بالأمن والأمان؛ فإن الصلاة في المسجد الأقصى، تحمل معنى الرباط وأن المصلي يطأ موطئا يغيظ الكفار، مع شعور بالخوف على هذا المكان المبارك، في ظل التهويد والتضييق، والاقتحامات شبه اليومية من المستوطنين وقوات الاحتلال بمختلف أنواعها (مخابرات وشرطة وحرس حدود). وإن كنت في الحرمين تحس أن العرب قلة من المسلمين فعليا مقارنة مع القادمين من دول مثل إندونيسيا وباكستان وعموم شرق آسيا، والفلسطينيون قلة من القلة مقارنة مع المصريين والمغاربة؛ فإنك في المسجد الأقصى ترى أن القلة هم من غير الفلسطينيين، وربما أغلبهم من الهنود الذين يحملون جنسيات أجنبية كالبريطانية.

 

والمقدسيون وإن عزلوا عن إخوتهم، فإنهم يحفرون في الصخور في معركة الصمود والبقاء في مدينتهم، وفي صيف العام الماضي 2017 خاضوا معركة نيابة عن أمة الإسلام كلها، حين أجبروا سلطات الاحتلال على إزالة البوابات الإلكترونية عن بوابات الأقصى.. انتصروا في المعركة، ولكن هم يدركون أنها معركة ضمن حرب كبيرة شرسة تستهدف المسجد الأقصى، خاصة بعد قرار ترمب ونقل سفارته المشؤومة إلى مدينتهم الأسيرة، التي يجبر بعضهم على هدم بيته فيها بيده! وفي أزقة وحواري وأسواق القدس مثل خان الزيت ترى المستوطنين من ذوي القبعات والشعور المتدلية يتحركون بكثرة، فرادى وجماعات، والكاميرات مثبتة في كل مكان، فتدرك حجم التهويد غير المسبوق، وترى المدينة مع كل ما فيها من نظافة وتزيينات حزينة قلقة متألمة.

 

وعلى أبواب المسجد الأقصى ترى مجندة تتبادل الضحكات مع جنود ويتناولون الطعام والعصائر غير آبهين بمشاعر المسلمين الصائمين، وهذا مشهد جديد نسبيا، ففي السنين الخوالي، كان هناك نوع من التظاهر بالاحترام.. وكأنهم يقولون اليوم: المكان لا يخصكم وحدكم بل لكم شركاء فيه.. حتى تتهيأ الظروف ويصبح لهم ولا حق لنا فيه، مثلما فعل الفرنجة قبل 919 عاما، مع فارق ان هؤلاء يريدون بناء هيكلهم المزعوم على أنقاض مسجدنا.

 

وباتجاه معبر قلنديا بعد تأدية سنة صلاة الضحى، كأني أسمع صوت تميم البرغوثي (…القدس صارت خلفنا) مع شعور يمتزج به التعب والحزن والقلق وشيء غامض لا أعرف التعبير عنه وسؤال: متى سنعود؟ في رمضان القادم؟.. ومتى سندخل المدينة والمسجد بلا حواجز وفي أي وقت نريد؟ القدس بعد رمضان تعود لتعيش دهرها وتواجه التهويد والاستيطان، والمسجد الأقصى يلفه الحزن والشوق على من لا سبيل لهم لدخوله، ويعلن احتجاجه الصامت الصارخ على لامبالاة الأمة وبقائها في حالة ردات الفعل الباردة. ولا يطفئ الشوق إلا رؤية الضالة وقد استردها المسلمون من الأمة الضالة!

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.