شعار قسم مدونات

إلى أين يمضي ذلك الكائن العجيب؟

BLOGS الإنسان

يقول الفيلسوف "آرثر شوبنهاور": إن فرح الإنسان ومرحه ناجم عن أننا لا نرى الموت، عندما نكون صاعدين إلى ربوة الحياة، لأن الموت يكون في أسفل الجانب الآخر من الهضبة. فأين يقف الإنسان المعاصر من تلك الهضبة؟

لو تأملنا في كل ما نعرفه عن تاريخ الإنسان، لوجدنا أنه أشبه بخط بياني، كان دائما في حالة ارتقاء وصعود، وذلك لخدمة الإنسان نفسه. وعلى الرغم من أي انتكاسات أو عثرات كانت تمر بها البشرية، إلا أن الإنسان كان يسير دائما نحو التطور والازدهار، ولو بشكل بطيء. فمنذ أن بدأ يطوع الشجر والحجر والمعدن لخدمته، وما تلا ذلك لقرون طويلة، إلى ما بعد اختراع المُحَرِك، كانت كل هذه الأشياء تصب في مصلحة رفاهية الإنسان وخدمة راحته وتحقيق طمأنينته إلى درجة كبيرة.

 

إلى أن جنينا الثمار الناضجة للثورة الصناعية، في حقبة ما من القرن العشرين، ثم بدأنا بعد ذلك -على ما يبدو- نرى الجانب الآخر من الهضبة، التي تكلم عنها شوبنهاور. وإذا صحَّ هذا التشبيه، فهذا يعني بأن الإنسانية قد تجاوزت ذروة شبابها، منحدرة نحو الشيخوخة. ولكن إذا كان سفح الهضبة الصاعد، والذي تدرَّجنا فيه ببطء لملايين السنين، شاقا وطويلا، فيبدو أن المنحدَر على الجانب الآخر من الهضبة، قد يكون قصيرا وشديد الانحدار، أكثر مما كنا نتوقع.

ما يسعى له الإنسان بشكل واقعي هو ليس إيقاف حدوث الكوارث، وإنما محاولة تخفيف حدتها، من جهة، ومحاولة إيجاد الوسائل للتعايش معها من جهة أخرى

قد يقول قائل: ولكن جعبة الإنسان من الابتكارات لم تفرغ بعد، وهو ما يزال في سعي حثيث ومُثمر، لإيجاد وسائل جديدة، تخدم رفاهيته وتحقق له المزيد من الرخاء والأمان والطمأنينة والسعادة، وحتى أكثر من أي وقت مضى! أما الرفاهية والرخاء؛ فلا شك بأنهما في حالة ازدياد وازدهار دائمين. ولكن المفارقة التي بتنا نلمسها، ولا سيما في العقود الأخيرة؛ بأنه كلما ارتقى الخط البياني للرفاهية والرخاء، كلما انحدر مستوى الطمأنينة والسعادة والأمان لدى البشر.

فلو أخذنا مثالاً، من ما كان يتم تسميته "العالم الأول" أو الدول المتقدمة والأعلى نسبة من حيث دخل الفرد، لأخبرتنا الإحصائيات؛ عن ازدياد متسارع في تعاطي المخدرات والمهدئات والمنشطات والمكيفات، ولاسيما منذ بداية الألفية الثالثة. وهذا الازدياد يسير بالتوازي مع حالات الضغط النفسي والاكتئاب والميل إلى الشعور بالخواء وعدم الثقة بالمستقبل. والحال ليس بأفضل في الدول الفقيرة أو متوسطة الثراء والدخل.

وعلى الرغم من أن الخط البياني لمتوسط عمر الإنسان هو في ارتقاء، إلا أن نوعية حياة الإنسان ومناعته في انحدار مستمر، ونضرب مثلا عن ابحاث مختصة قد تم القيام بها في بلدان عدة، حيث أكدت النتائج تدني نسبة الخصوبة لدى الرجال بشكل ملحوظ في السنين الأخيرة، ذلك أن عدد الحيوانات المنوية وقدرتها على الحركة، هي في انخفاض مستمر، كما أن معدلات هرمون الذكورة الضروري لعملية الإنطاف (التستوستيرون) في تناقص مستمر، وذلك خلال "العقود الأخيرة" فقط.

من ناحية أخرى، نضرب مثلا عن أبحاث ألمانية موثقة، أثبتت أن هناك انخفاضا مخيفا في نسبة الڤيتامينات والمعادن في الفواكه والخضار غير العضوية منذ عام ١٩٨٥ وحتى عام ٢٠٠٢ أي في أقل من عقدين من الزمن، فإلى أين نذهب! وما الجدوى من إطالة عمر الفرد، ما دامت نوعية حياته ومناعته في انحدار، مما كان، وسيكون له دور في ازدياد نسبة الإعاقات والعاهات والهشاشة بين المواليد الجدد.

وكذلك، فإن التغيرات البيئية التي تحصل على كوكبنا، والتي هي من أحد ضرائب الرفاهية التي ننعم بها، كالاحتباس الحراري مثلا، والذي سيجلب لنا عاجلا أم آجلا، كوارث مدمرة كثيرة لكوكب الأرض؛ من حرائق وفيضانات وأعاصير غير مسبوقة، وكذلك موجات جفاف لبعض المناطق، وغرق مناطق أخرى، بما في ذلك مدن بكاملها، بسبب ذوبان الجليد من القطبين المتجمدين، الذي سيؤدي إلى ارتفاع منسوب مياه البحار، بالإضافة إلى الأمراض والأوبئة المعدية وانقراض العديد من الحيوانات والنباتات. هذا ما يؤكده العلماء على المدى المنظور، فهل بإمكان الإنسان إيقاف تلك الكوارث؟

 

في الحقيقة، إن ما يسعى له الإنسان بشكل واقعي هو ليس إيقاف حدوث تلك الكوارث، وإنما محاولة تخفيف حدتها، من جهة، ومحاولة إيجاد الوسائل للتعايش معها، كأمر واقع لا محالة، من جهة أخرى. ذلك أن جميع المؤشرات تدل على أننا دخلنا في مرحلة اللاعودة. وحتى لو أوقفنا انبعاث "الغازات الدفينة" نهائيا، وأهمها ثاني أوكسيد الكربون، فإن لذلك الغاز عمرا طويلا في الغلاف الجوي، وبالتالي فإن درجة حرارة الأرض هي في ازدياد مستمر، ولعقود طويلة. علاوة على أنه من غير الممكن إيقاف انبعاث تلك الغازات نهائيا، ولاسيما على المدى المنظور.

فماذا عن احتمال نشوب حروب وصراعات مدمرة، قد يجلبها لنا طيش الإنسان ورعونته في المستقبل؟ في وقت بات فيه البشر يمتلكون تكنولوجية مرعبة للقتل، ووسائل هائلة للدمار الشامل! وفي وقت أصبح فيه سائدا، حالة من انحسار التسامح وضيق الهامش الذي يمكن منحه للآخر، بشكل لافت وواضح، بما في ذلك انتشار العنصرية وازدياد التعصب القومي والعرقي وكذلك تفشي التطرف الديني والمذهبي، بالإضافة إلى انحدار واضح في الأخلاق لدى معظم الأطراف، ولاسيما خلال "عقود قليلة" قد مضت من الزمن، ليس أكثر.

 

فاليمين المتطرف، بشكله القومي والديني، بات له نفوذ يزداد يوما بعد يوم، في العالم عموما، وذلك ما يجعل التنبؤ بعودة أيديولوجيات موازية للنازية أو الفاشية، أمر قابل للتصديق والحدوث في أوروبا الحديثة مثلا، مثلما استشرت الفاشية الدينية في بلادنا، كردة فعل على ممارسات عالم "مُتحضِر" قد بات يفتقد أدنى درجات التحضر، عندما يتعلق الأمر بالدول الضعيفة. حيث أن "البراغماتية" أو الانتهازية في السياسة الغربية باتت بلا ضوابط أو حدود، وحيث صارت إمكانية هدر دم الضعيف، لسلب ما لديه، أمرا سهل التبرير والتنفيذ، ولو بطرق ومسوغات شتى.

الإنسانية شأنها شأن الإنسان نفسه، إذ أنها قابلة لأن تمر بنفس مراحل التطور التي يمر بها، من طفولة مبكرة ومراهقة وطيش وشباب، ثم شيخوخة وفناء حتمي بعد ذلك
الإنسانية شأنها شأن الإنسان نفسه، إذ أنها قابلة لأن تمر بنفس مراحل التطور التي يمر بها، من طفولة مبكرة ومراهقة وطيش وشباب، ثم شيخوخة وفناء حتمي بعد ذلك
 

وهذا ما يزيد من احتمال المماحكة التي قد تؤدي إلى مواجهة شاملة بين الأقوياء. وما دامت الصراعات والنزاعات قديمة قِدم الإنسان وغرائزه، وما دامت ستستمر ما دام للإنسان غرائز، فإن حدوث حرب، أو حروب كونية قادمة، هو مسألة وقت لا غير، طال أم قصر، وهذا يعني؛ بأن استمراريتنا ذاتها على هذا الكوكب، ستكون مهددة، تبعا لما يحمله الإنسان من شراهة متزايدة للسيطرة والتملك، ولما بات يملكه من أدوات فتاكة لتدمير الذات، ولو من خلال محاولته لتدمير الآخر.

في الحقيقة أن الإنسانية شأنها شأن الإنسان نفسه، إذ أنها قابلة لأن تمر بنفس مراحل التطور التي يمر بها، من طفولة مبكرة ومراهقة وطيش وشباب، ثم شيخوخة وفناء حتمي بعد ذلك. وهذا أمر طبيعي تماما ومتوقع. فالبشر سيستهلكون موارد الأرض يوما ما، وسيستهلكون أنفسهم كذلك، كالجسد البشري الذي يستهلك نفسه تدريجيا حتى الموت، وذلك بفعل عامل الزمن الذي تخضع له جميع الموجودات. ولكن مع ذلك، فمن الحكمة أن يحرص الإنسان على إطالة عمر بقائه وبقاء الحياة على الأرض، إلى أطول ما يمكن، وذلك بأن يجعل المنحدر نحو الهاوية، أقل قسوة وأطول أمدا.

ولكن التحدي الحقيقي للإنسان، بأنه طوَّر عقلا، ثم بات عاجزا عن كبح اندفاع ذلك العقل، الذي بدأ ينقلب على صاحبه، بعد أن كان موظفا لخدمته. كمن ابتكر آلة متحركة لتنقله، ولكن الآلة أفلتت من صاحبها وصارت تجره وراءها بحبل لا ينقطع، بعد أن سبقت إمكانيته على اللحاق بها أو الوصول إليها، بغية التحكم بها.

ومن هنا يمكننا الحديث عن ضرورة التفكير أحيانا، خارج الصندوق. أعني صندوق العقل! وذلك من خلال العودة إلى الروحانية التي تنبع من القلب، لا من العقل. أقول الروحانية ولا أقول الدين، من دون أن أستثني الدين، ولكن بنفس الوقت، من دون أن أختزل الروحانية به. وعلى الرغم من أن الروحانية أصلا، هي من جوهر الدين. إلا أن الدين الذي بتنا نعرفه، صار أشبه بالبهلوان الذي يجيد تغيير أقنعته في كل عصر ووقت، تبعا لمتطلبات ومصالح ومزاجية الإنسان. حتى أن البشر في أحيان كثيرة، قد باتوا يعبدون مصالحهم وغرائزهم، على الرغم من قناعتهم الراسخة بأنهم يعبدون الله ويخدمون الدين. وذلك من الأسباب الأساسية التي تزيد الخصام وتؤجج النزاعات بينهم.

أما عن الروحانية؛ فذلك له بحث آخر، ولكن عندما يقترب عامة البشر من وعي أصيل للروحانية، فإن ذلك لن يكون على أية حال أمرا سيئا، لتحقيق الطمأنينة والسعادة الحقة للبشرية ككل، وللاعتدال في استهلاك أنفسنا واستهلاك ما حولنا من الطبيعة والأشياء والكائنات، ولإطالة عمر إنسانيتنا، على الرغم من أننا سنبقى دائما نمتلك الغرائز.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.