شعار قسم مدونات

الاعتبار من كتاب الاعتبار..(1)

blogs كتاب الاعتبار

سألت نفسي سؤالا: لماذا بلاد الشام التي فتحها المسلمون في زمن أبي بكر وعمر بن الخطاب –رضي الله عنهما- ظلت عرضة لهجمات متكررة، وتعرضت حواضرها للغزو الخارجي، الغربي خاصة، دون أن تلاقي تلك الهجمات مقاومة كافية، قبل أن تتحول إلى احتلال يطول؟ بتقديري الشخصي فإن السبب هو ضعف واضح في تحصين الشام التي كانت وما زالت محط أنظار الغزاة؛ لموقعها الاستراتيجي، ولاحتوائها على بيت المقدس، ولوجود ثروات كثيرة فيها يطمع فيها الغازي سواء في زمن الاعتماد على الزرع أو في عصر الثورة الصناعية. صحيح أنه لا يمكن أو لا يجوز حصر الإجابة عن هذا السؤال بهذه الجزئية، ولكنها عامل مهم، بل أراه الأهم.

 

فالحروب الصليبية أو غزو الفرنجة مرحلة استمرت 200 سنة، أول 90 سنة منها تقريبا كانت فيه قبلة المسلمين الأولى مدنسة منتهكة، فحررها الناصر صلاح الدين الأيوبي، لكن تحرير القدس وغيرها لم ينهي الاحتلال الصليبي تماما، إلى أن جاء الأشرف قلاوون المملوكي لينهي ذلك الوجود الشاذ في بلاد الشام. ودخلت الشام كما مصر كما العراق كما الحجاز والمغرب تحت راية الحكم العثماني ولكن في أواخر القرن الثامن عشر الميلادي جاء نابليون في حملته المشهورة إلى مصر، وتوجه منها إلى فلسطين ولكن بسبب التحصين الجيد لمدينة عكا الساحلية فشل في بسط نفوذه، بل فشلت حملته عمليا…صحيح ثمة عوامل وظروف أخرى لفشل الحملة ولكن لا يمكن إهمال منعة عكا وأسوارها.


وبعد الحرب العالمية الأولى كانت الكارثة الكبيرة بهزيمة الجيوش العثمانية على يد الحلفاء ودخول المستعمر الإنجليزي والفرنسي إلى بلادنا، فقسمها بل مزقها وفق ما عرف باتفاقية سايكس-بيكو التي ما زالت حتى الآن سارية المفعول عمليا، ومنح اليهود الصهاينة أرض فلسطين (جنوب الشام) بوعد بلفور ولاحقا صك الانتداب، ولا تزال الشام محل طمع وغزو غربي شرس…ولو لم يكن في الشام إلا وجود إسرائيل منذ 70 سنة فوق  أرض فلسطين لكفاها حزنا وألما وكمدا. وهنا لا بد من العودة إلى الماضي وتحديدا إلى القرن الثاني عشر الميلادي/السادس الهجري لقراءة ودراسة ما كتبه الأمير أسامة بن منقذ الكناني الشيزري (488-584هـ/1095-1188م)، في كتابه الموسوم بـ(الاعتبار).

 

ولا شك أن قيام د. عبد الكريم الأشتر-رحمه الله- والذي توفي في عام 2011 وهو ابن حلب الشهباء أي ابن بلاد الشام المثقف الموسوعي صاحب الباع الطويل في الأدب العربي والدراسات النقدية بتحقيق كتاب الاعتبار وإعادة ترتيبه ونشره بطريقة مناسبة لأكبر وأوسع استفادة منه هو جهد نسأل الله أن يجزي الراحل الأشتر عنه كل خير.

 

أما هدف د. الأشتر من هذا الجهد العظيم فقد سطّره في ص24 من الكتاب الصادر عن المكتب الإسلامي(بيروت-عمان) في ط3 لعام 2008 فقال عليه رحمة الله: "إن غاية ما أبتغيه من نشر الكتاب مرة أخرى، في طبعته الكاملة هذه، بعد أن أعدت النظر فيه إعادة شاملة أن تقع الإفادة منه في هذه الأيام الحرجة التي نواجه فيها غزوا استيطانيا جديدا يذكّر بغزو الإفرنج أيام الحروب الصليبية، في عصر أسامة فيعين نشر نصوصه على إشاعة الإصرار على دحره في نفوس الناس، عامة الناس، وتقوية روح المقاومة فيهم، وبث الثقة، والاعتبار بما تمّ لنا تحقيقه تلك الأيام واستخدام الدروس منه ." ا.هـ

 

ولأجل هذا التوضيح المهم من د. الأشتر اخترت عنوان هذه السطور موافقا عن قناعة تامة بهدف إخراج الكتاب بهذه الطريقة أي الاعتبار من كتاب(الاعتبار). أما الأمير أسامة بن منقذ الكناني الشيزري وفق سيرته الواردة في مقدمة كتاب الأشتر فهي باختصار وتصرف سيرة رجل من أسرة حاكمة من قبيلة كنانة، وكنانة من قحطان، ولد في قلعة شيزر شمال مدينة حماة السورية حاليا، وهي قلعة ذات موقع حصين على نهر العاصي وتشرف على سهل الغاب وعلى طريق المغيرين على سورية من الشمال.

 undefined

وقد عاش أسامة ويلقب بـ(مؤيد الدولة أبو المظفر) في أسرة أمراء وقادة وكانت العادة في تلك الأزمنة كما يظهر، أن يجمع الأمير بين الفروسية وعلوم الدين واللغة، فنشأ أسامة واعيا للقرآن الكريم والتفسير والحديث الشريف، واطلع على التاريخ والسير وقرأ على شيوخ زمانه، وقد درس باستفاضة علوم اللغة والأدب والشعر، كما تمرّس بأساليب القتال والصيد على أيدي الفرسان، وعرف بحدّة الذهن وشجاعة القلب وخفة الحركة.

 

وقد رحل إلى مصر سنة (540هـ) أيام الحافظ لدين الله الفاطمي ومكث فيها تسع سنين، قبل أن يرحل إلى دمشق، وفي مصر عايش أحداثا ساخنة خاصة أنه كان في وقت أفول الدولة الفاطمية. وقد أغار الفرنجة على أهله فسلبوهم أموالهم، وشيء نفيس آخر وهو حوالي 4 آلاف مجلد من الكتب الفاخرة، وقد آلمه فقدان هذه الكتب كثيرا، فقال في (الاعتبار): فإن ذهابها حزازة في قلبي ما عشت!

 

وقد عاش أسامة في خضم كثير من الأحداث العظام، وتنقل في عدة بلدان وحواضر (كأرمينية وملطية)، واعتكف في سنة 559هـ في حصن كيفا (في تركيا حاليا) وأخذ يكتب ويؤلف. وجدير بالذكر –كما يشير الأشتر- أن كتب أسامة المنهوبة كانت مصدرا تاريخيا رئيسيا لمؤرخ الصليبيين (وليم الصوري) وكان يعرف العربية… وبهذا يكون أسامة بن منقذ أفضل وأغزر مصدر تاريخي عن تلك الفترة.

 

وقد استدعى السلطان صلاح الدين سنة 570هـ أسامة إلى دمشق فأكرمه وأقطعه ضيعة وأملاكا، وجعله من مستشاريه، ولهذا يشير أسامة في أواخر كتابه إلى شعوره بالعرفان من رعاية السلطان له، وقدّر الله –جل وعلا- أن يشهد أسامة في حياته تحرير بيت المقدس على يد صلاح الدين سنة(583هـ) ليموت بعدها بعام ويدفن في جبل قاسيون في دمشق.

 

وهذه الفقرة الأخيرة من سيرة أسامة بن منقذ مهمة جدا فلو أنه كان، كما يغمز بعض الناقدين من قناته، من المتوافقين أو المتواطئين مع الاحتلال الصليبي لما أكرمه السلطان وجعله من خاصة مستشاريه، ولكن إذا كان قد اضطر بحكم وضعه ومهمات أوكلت إليه-فهو جليس الحكام والأمراء وسفيرهم- إلى لقائهم، فإن قلبه ظل كارها لهم، وعقله يزدري حالهم، وفي كتابه ما يدل بوضوح على احتقارهم. أما كتابه الذي أملاه بعد أن صار شيخا كبيرا، فهو يجمع بين السيرة الذاتية، ووصف أحوال المجتمع بعمق ووعي، ولم يقتصر على وصف المعارك والحروب، ولأهمية الكتاب فقد ترجم إلى عدة لغات كالإنجليزية والفرنسية والألمانية.

 

لقد عاش أسامة في وقت كثرت فيه الفتن والخلافات، وازداد أذى الفرنجة، فجاء وصفه لتلك الأحوال بمنتهى الأهمية لكل دارس أو معتبر. بل أيضا أقول إن الكتاب يهم الدارسين والمهتمين بالطبيعة وعالم الحيوان، فقد لفت نظري أن منطقة شيزر في ذلك الوقت كانت فيها غابات تعج بالحيوانات المفترسة كالأسود والفهود، إضافة إلى الحمر الوحشية.

 

وأكرر أنه لولا الجهد المقدّر الرائع الذي قام به د. عبد الكريم الأشتر خاصة في الطبعة الثانية من الكتاب لكان من الصعب على الدارس بله القارئ العادي غير المتمرس أو غير المتخصص الإحاطة بمادته والوصول إلى مبتغاه وغايته… إلا بشق الأنفس…

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.