شعار قسم مدونات

رواية "كشف المحجوب" بين حملة الأقلام ورواد الكلام

BLOGS كشف المحجوب

لقد أصبح عنوان النص الأدبي يتصدر عتباته؛ إذ يعتبر العنوان هو الأهم من بين عتبات النص الأخرى "الغلاف والإهداء والتقديم والناشر والهوامش واللوحات والخطوط" فهو يمثّل بدلالته مدخلا يجعل القارئ من خلاله يستكشف أعماق النص محيطا بجوانبه وأهدافه ومراميه. ولقد أضحى الاهتمام بالعناوين يزداد مع ازدياد حرص الكتّاب على اختيار عناوين نصوصهم، لأن أول شيء يجذب القارئ نحو الكتاب هو عنوانه، لقد جعل "فريد الأنصاري" عنوان روايته -كشف المحجوب- سرا يفك شفرته بنفسه في النهاية.. حيث قابل كلمة "كشف" بكلمة "المحجوب" مما يجعل القارئ أمام تأويلات كثيرة لهذا المعبر عنه، لأن الكشف لا يكون إلا لشيء محجوب ومستور أو متستر، سواء كان هذا المحجوب هو شيء خفي يريد الراوي إيصاله للناس على حقيقته، أو هو صاحب الرواية نفسه!

ولد الفقيه والأديب فريد الأنصاري بإقليم الراشيدية، المغرب 1380 هـ. 1960م حصل على الدكتوراه في الدراسات الإسلامية تخصص أصول الفقه، عمل رئيسا لقسم الدراسات الإسلامية بكلية الآداب، جامعة مولاي إسماعيل بمكناس، المغرب. وأستاذا لأصول الفقه ومقاصد الشريعة بالجامعة نفسها. شغل منصب عضو في المجلس العلمي الأعلى بالمغرب. حتى ذهب إلى الرفيق الأعلى بعد صراع مع المرض دام عدة سنوات، بإسطنبول في تركيا، 17 ذو القعدة 1430 هـ. 2009، وترك عدة كتب، سواء العلمية منها كمجالس القرآن من التلقي إلى التزكية، الأخطاء الستة للحركة الإسلامية بالمغرب، سيماء المرأة في الإسلام بين النفس والصورة… أو الأدبية: ديوان القصائد، جداول الروح، ديوان الإشارات، مشاهدات بديع الزمان النورسي، آخر الفرسان، عودة الفرسان، وكذلك روايته "كشف المحجوب" التي سنتحدث عنها.

رواية "كشف المحجوب" رغم امتلاكها جميع المقومات كي يتخوض الغمار في ساحة الأدب إلا أنها قد ظلمت كثيرا حيث أقصيت من الساحة الأدبية، سواء كان ذلك بعدم حصول الرواية على جوائز إبداعية أو تقديرية، أو من حيث تداولها بين الأدباء

لقد افتتح روايته "كشف المحجوب" بكلمة للإمام الجوهري التي يوضح فيها عن سبب تسميت كتابه كشف المحجوب "وأما ما قلته من أني أسميتُ هذا الكتاب" كشف المحجوب.. فإن أهل البصيرة حين يسمعون اسم هذا الكتاب يعرفون ماذا كان المراد منه.. ولما كان هذا الكتاب في بيان طريق الحق، وشرح الأقوال، وكشف حجب البشرية؛ فإنه لا يناسبه غير هذا الاسم! والكشف في الحقيقة هو هلاكٌ للمحجوب، كما أن الحجاب هلاك المكاشف! لأنه لا طاقة للقريب بالبعد، ولا للبعيد بالقرب… وسلوك طريق المعاني صعبٌ جداً إلا لمن خلق من أجله!" ثم أردف بكلمة للروائي التشيكي: ميلان كونديرا، الذي يدور بين صراع الأنا.

ثم تبدأ رحلة التشويق مع الرواية منذ الوهلة الأولى برفقة المحجوب الذي جاء من صحراء الجنوب إلى الغرب! في رحلة بين نفقة الأحزاب والسلطة وكذلك النقابة، حيث يصور لنا الكاتب كيف تؤثر الكلمة، وما يفعله الزور… من هزم لبناء المجد الشامخ، لكن رغم هذا الزيف إلا أن الراوي ثابت أمام ذلك، وكأنه يقول للقارئ أنا هنا واضحٌ متصالح مع نفسي، لا مشكلة لدي.. باستثناء مشكلة صغيرة، أنفي! كبريائي! وبهذا الأنف وحده، سيتحدَّد مسارُ بطلِ الرواية في أكثر من موضع فيما بعد، عندما يختار ألا يذهب إلى القاع بدون إرادته مهما كاد أن يقترب.. ومهما تاهت المصلحة ضد الفطرة بين سيدة النادي وسيدة البستان، ومن بين جمالية الرواية أيضا كيف استطاعت أن تشخص عبدة الهوى والذل؛ سواء كان ذلك من أصحاب السياسة المرموقين، أو أصحاب الأدب المزيفين.. وكذلك كيف جسدت المؤامرة، بحيث أصبحت مهمة سيدة النادي إلى مهمة أكثر قذارة مما كانت عليها؛ إلى مهمة استنزاف الصنف الآخر من العقول والقلوب هذه المرة.. بعدما أن أصبحت سيدة جمعيةِ البر والإحسان! هي وذلك اليهودي، صديقها القديم الذي كان عميدا للأدب عندما كانت هي سيدة الإبداع.. وأصبح داعيا للإحسان إلى جانبها داعما طبعا لاحقا استكمالا لطقوس التزوير والتلفيق، وكما لمح أكثر من مرة إلى الوجه الآخر للمرأة التي وراء كل عظيم! وكذلك دورها أو بالأصح دور جسدها في إبلاغ المرء إلى مقصده من سلالم الرقي والشهرة.. وكما تجلت لنا أيضا جرأة الأنصاري في تعريف الأمورِ كما هي، وإطلاقِ الأسماء الحقيقية على مسمياتها دون لفّ أو دوران بقُدرة مدهشة بحق..

أما من الناحية الشاعرية للرواية فأنت تجد نفسك أمام أديب مضلع من حيث البيان والإيضاح، وكذلك الكلمات الساحرة التي لم تطغى على إبلاغ المعنى على أكمل وجه، ومما يزيد الرواية جمالا هو تقيد الكاتب بمحيطه وثقافة، وكذلك الاتيان بشيء جديد، خلافا لبعض الكتاب الذين يتطاولون على الأدب حتى أضحى بعضهم يكتب للغير عن مجتمعه بنظرته هو، مدعيا أنه قادرا على أن يكتب خارج محيطه، لكن القدرة تكمن في أنك تظهر ثقافتك لغيرك بنظرتك أنت وليس العكس، وكذلك عدم إتيانهم بشيء جديد، مما جعل الرواية تموت؛ فموت الرواية لا يكون بتوقه كتابتها، بل بالتكرار وعدم الإتيان بالجديد والتأسيس لمدارس أدبية جديدة، على حد تعبير ميلان كونديرا.

 

لكن رواية "كشف المحجوب" رغم امتلاكها جميع المقومات كي يتخوض الغمار في ساحة الأدب بين حملة الأقلام ورواد الكلام، إلا أنها قد ظلمت كثيرا حيث أقصيت من الساحة الأدبية بشكل مخز؛ سواء كان ذلك بعدم حصول الرواية على جوائز إبداعية أو تقديرية، أو من حيث تداولها بين الأدباء بالتحليل والدراسة، حتى أن بعض -الأدباء- لا يعرفونها من أساس مما يعاب عليهم ذلك. 

لقد رحل عنا الأديب "فريد الأنصاري" وترك لنا موروثا من الكتب في كثير من المجلات، وكذلك ترك على عاتقنا حملا ثقيلا؛ هو إنارة العقول وإخراجها من فسفسة الأمور إلى أنهار العلم، وعدم الخضوع للذل رغم تستره!

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.