شعار قسم مدونات

مِحراب مَريم.. لهفةُ بداية ونشوةُ خِتام!

blogs عبادة

من مِحرابِ مريم، بدأت القِصَّة، أين شبّت فكان أمانُها، ملاذُها وخلوتها، تقفُ فيه خاشعةً فتنسى أوجاعها، سكونها تراتيلُ شوقٍ تُلملمُ ذاتها، فيحلُّ عليها اطمئنان السّماء، وهي ذي حالُ كل من تشعُّ فطرته بنور الغيب. "فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا بِقَبُولٍ حَسَنٍ وَأَنْبَتَهَا نَبَاتًا حَسَنًا"، فكيف يمكن أن يكون هذا الإنبات، والله من يتولاّه! لا شكّ أنه إنباتٌ لا يحدّ، وخصبه لا ينكد، وعطاؤه لا ينفذ.

 

هكذا بدأتِ القصّة، فكان لها على النَّاسِ في حياتهم ولَعٌ بالِغ، وحبٌّ لصيقٌ متمكِّنٌ من قلوبهم وعواطفهم؛ لأنّها أسلوبٌ رفيع يُصغي إليه السَّامع، وترسُخُ عِبَرها في النَّفس بشَغَف، وأنت تقرؤها يُخالجك شعورٌ حاضرٌ معها، كأنّما نُفِخَت الحياةُ في القرون الهامدة، فأصبحتَ تشاهدها كفاحًا؛ ليرِيك الله مَنْ سبَقونا من الأمم، في فرحهم وتَرَحهم، وجِدِّهم وهَزْلهم، وتصديقهم وتكذيبهم، وصبرهم وإيمانهم، وسُخريتهم وتسليمهم.

 

في محرابِ مريم، تكاد تُفقدُ كل الّلغات، تجلسُ على ركبتَي الهوى والأنس، أفلا تتكلَّم لتبوحَ لهُ بكلِّ ما في قلبها، وتتركهُ لهُ خاليًا ليفعلَ به ما يُحبّ؟! ثمّ أليس من علامات المحبّة أن يكون للمحبّ حالٌ مع ربّه، لا يحبُّ أن يطلع عليه أحد، حتّى وإن كان أقرب النّاس إليه؟ وكذلك قال: "فَاتخَّذتْ مِن دُونِهمْ حِجَاباً".

 

تركضُ إلى مِحرابِ مريم، بقلبٍ يدقُّ على خواءٍ مرعبٍ، وروحٍ تتنفسُ هواءً ثقيلاً، كأنّك أنتَ وحدَك في الكون، وحدكَ تحملُ ثقلهُ وتقفُ على حافةِ أفقٍ أحمر، فارًّا من الغربة

لكَمْ ظننّا أنّ لقاءَهُ -عزّ وجلّ- يحتاج إلى مقدّماتٍ لا تنتهي، ووسائط لا تُحدّ، وأورادٍ مكرّرة، وأنَّ طريقَ حُبّه مملوءةٌ بالمصاعب والأذى، فركضنا في كلّ مكانٍ، نحملُ أنفسنَا على كفّيْن من رجاءٍ وعجلة، فما احترسنَا لموضعِ أقدامِنَا؛ وتعثّرنا أكثر من مرّة، وذُقنَا من الأذى ألفَ طعمٍ، ومن المصاعب كلّ لونٍ، ثمّ اكتشفنَا في النّهاية أنّ هُناك دروبًا خلفيةً أخرى له، رؤيتُنَا لأنفسِنَا أعمتنَا الطَّريق، كانت طريقٌ سهلة فقط لمن يُبصرُ، لا يوجد فيها وشاةٌ، ولا سيّئو الظّن، ببساطة، لقد كُنّا نسيرُ في دربٍ يبدأ منَّا لينتهي إلينَا!

 

أتعلم! إنّ وجه الإنسان مرآة قلبه، ترى وجوهًا تلمع بلونٍ قارونيٍّ، وأخرى تضطرب لا تعرفُ لها شكلاً، وأخرى مغرَقةٌ بأشكال الخزي، وترى وجوهًا أثّر فيها النّظر إلى وجهه سبحانه، فأين نحنُ من كلّ هؤلاء! إنّنا لا نحتاجُ الآخر لنرى الله، لنصِل إليه، فإمّا أن نراهُ في قلوبِنَا، أو لا نراه.

 

تركضُ إلى مِحرابِ مريم، بقلبٍ يدقُّ على خواءٍ مرعبٍ، وروحٍ تتنفسُ هواءً ثقيلاً، كأنّك أنتَ وحدَك في الكون، وحدكَ تحملُ ثقلهُ وتقفُ على حافةِ أفقٍ أحمر، فارًّا من الغربة، غُربةٍ فكـريةٍ في زحامٍ مـن الانحطاطِ وغيابِ الوعيِ، بينَ ركامِ أفكـارٍ  دنِسة يرمونَها في طريقك كحطب أمّ جميل، سعيًا منهُم لـهدمِ ما رسخَ في نفسك مـن قيَمٍ وثوابت لطالما نافحَ عنها وعن منابعِها أولئكَ المُخلصونَ لـدينِهم وأُمَّتِهم، مـن الـسّابقين الذين فقِهوا طبيعةَ الحربِ القائمةِ، فأعدّوا لها العُدَّةَ، في حين عجزنا نحنُ عن ذلك بانسياقنا وراءَ الشَّـهواتِ، وظللنا نُخفي عجزنا بـشِّعاراتٍ مزيّفةٍ، وخُدعٍ مُتَّشِحةِ بـرداءٍ الحِق تدليسًا وتلبيسًا، على قُلوبنا جميعًا عدا ثُلِّةٍ قليلة من الذين فقهوا أطرافَ المعادلة… تفرُّ للمحرابِ آملاً أن تسمعه يقولُ لك: "وَاسْجُدْ وَاقْتَرِب"، التي لا حدّ للقُرب فيها!

 

في محرابك، تذكّر أنّ الله هو الذي يسيّرنا في الطّريق الموحش، ويجذبنا في الصّحاري القاحلة، فكيف تتركه وهو لم يتركنا؟ وكيف تحول وجهك عنهُ وهو مقبلٌ علينا؟
في محرابك، تذكّر أنّ الله هو الذي يسيّرنا في الطّريق الموحش، ويجذبنا في الصّحاري القاحلة، فكيف تتركه وهو لم يتركنا؟ وكيف تحول وجهك عنهُ وهو مقبلٌ علينا؟
 

ثمّ يأتي قولهُ: "كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ وَجَدَ عِنْدَهَا رِزْقًا قَالَ يَا مَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هَذَا قَالَتْ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ"، في مِحرابِها، تقفُ متعبّدةً، خاشعةً، مُطمئنّة، فيلطف الله بها ويأتيها رزقٌ من الغيب. فأيُّ رزقٍ غريبٍ عجيبٍ ذاك الذي رزقها الله إيّاه، ليُعظّمهُ بتنكيره! وأنت كذلك قِفْ في مِحرابك، وتذكّر لحظة تعثُّرك كل مرةٍ في الطّريق الخطأ، حيثُ كنت مرميًّا مفزوعًا من كلّ شيء، من الموت، والجُوع والمرض، والغربة، والفقر، والحرب، والخسارة… وتنساقُ خلف الشّهواتِ طوعًا، لابدّ وأنّك قد رأيت بعض السَّالكينَ من حولك يمشونَ ورؤوسهم مرفوعةٌ إلى السَّماء، أتدري لماذا؟ لأنّهُم رأوْا الله في كلّ شيءٍ، وقبل كلّ شيءٍ، وبعد كلّ شيءٍ، فارتسمت على روحهم ابتسامةٌ مُنعشة، لا يفسدها شيءٌ إلا سخطُك، فيُمنعُ عنك رزقك.

 

في مِحراب مريم، حين انقطعت إلى الله تعالى، ورغبت فيما عنده ورجت رضاه لم يُخيّب أملها، وصَلها حين وصَلته، وقبِلها حين قصَدته، فاجتباها وأرسل إليها جبريل -عليه السلام- ليكرمها بكلمة منه -سبحانهُ وتعالى-، خرجت مريمُ من حُجب المدينة الظّالمة، إلى نخلة المعرفة والشّهود، ولم تعد إلى المدينة إلا وعلى يديها كلمةُ الله، كي تقرع بها جُدران هياكل الدُّعاة الغافلين، وتُجّار الكلمات المشبوهة… إنها حركة حرة من الملك إلى الملكوت، خِتامُ الخلوة، ختامُ القرب، ختامُ التضرّع، كان هو، "عيسى" -عليه السّلام-!

 

في محرابك، تذكّر أنّ الله هو الذي يسيّرنا في الطّريق الموحش، ويجذبنا في الصّحاري القاحلة، فكيف تتركه وهو لم يتركنا؟ وكيف تحول وجهك عنهُ وهو مقبلٌ علينا؟ فقط، اثبت على الطّريق مهما استوحشْته، وعظُمت فيه الابتلاءات، فعيون الناس وألسنتهم لا ترحم صالحًا زل، أو اتهم بتهمة هو منها بريء، وسترى منهُ جميل العطاء الذي تنعقدُ من عظمته الألسنة، سِر في طريقك لله فإن أراد منك شيئًا اصطفاك، وصَنعك له صناعة، تمامًا كما اصطفا مريم، في قوله: "وَإِذْ قَالَتِ الْمَلاَئِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللّهَ اصْطَفَاكِ وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفَاكِ عَلَى نِسَاء الْعَالَمِينَ"، وأذاقك لذّة الخِتام.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.