شعار قسم مدونات

هل يعود الخليج الذي عرفناه؟!

blogs مجلس التعاون الخليجي

منذ مدة أشرع في كتابة هذه الكلمات ثم أتراجع؛ لأنني لا أدري هل أجعلها نصا تحليليا جامدا ورأيا شخصيا بناء على حقائق ومعطيات وانطباعات وتصورات، أم أخط خاطرة تعتمل في النفس أم أجمع بين هذا وذاك؟ مرت الأيام وأنا أنتظر، لعلي أكتب فرحا.. ولكن…!!

 

افتح يا سمسم أبوابك نحن الأطفال

افتح واستقبل أصحابك نحن الأصحاب

افتح فرجينا حيينا

دنيانا جمال

 

هذه كلمات مع لحن جميل رافقته براءة الطفولة وشقاوتها، هي شارة بداية مسلسل الأطفال (افتح يا سمسم) وربما حين كبرنا عرفنا أن المسلسل مأخوذ عن برنامج أمريكي، ولكن لم يكن لا لأمريكا ولا لأوروبا وجود في المادة الترفيهية التعليمية في حلقات ذلك المسلسل. كان الأطفال يطلقون على البدين من أقرانهم (نعمان) كناية عن الشبه مع شخصية نعمان في المسلسل وهناك من حمل ألقاب (بدر وأنيس) وربما الأسوأ حظا من حمل لقب (الضفدع كامل).

 

حلمنا بشارع عشرين، وخبرنا تركيب الحروف ومواقعها في كلمات لغة الضاد، وجمع الأرقام، وتجولنا عبر (افتح يا سمسم) في أنحاء العالم لنرى عدة صناعات وعدة أماكن.. كان أغلبنا عنده تلفزيون باللونين الأبيض والأسود، ولما جاءت التلفزيونات الملونة إلى بعض البيوت، كنا نتجمع مبهورين من ألوان الشخصيات (كنعمان وملسون والمعلمة مريم وهشام وعبد الله وغيرهم). إنه إنتاج (مؤسسة الإنتاج البرامجي المشترك لدول الخليج العربي).. نعم ليس الخليج مجرد واحة نفط وتخلف وشهوانية وغباوة، مثلما عمدت -مع الأسف الشديد- عدة أعمال درامية مصرية على تصويره لنا، حيث لما كبرنا شاهدنا مثل هذه الأعمال.

 

كل هذه المحاولات الوحدوية سواء على أسس سياسية أو عسكرية أو اقتصادية تفرقت أيدي سبأ، وبقي مجلس التعاون الخليجي صامدا، مع أنه لم يبلور اتحادا سياسيا، ولا استطاع إصدار عملة موحدة

الخليج كان يجمع بين استيراد مخترعات غربية كي يستمتع بها سكانه والوافدين، وبين وجود سمت عربي يحمل أصالة غابت تدريجيا عن غيره من بلاد العرب، حيث أن لبس الدشداشة والعباءة والغترة ظل غالبا على أهله حكاما وشعوبا. كان الخليج يجمع لمن ليس منه معنى دينيا لأن فيه مكة المكرمة والمدينة المنورة، ومكانا للعمل والرزق الحلال وتحسين الأوضاع لعشرات آلاف الأسر من بلاد الشام ومصر وبعض الدول العربية المغاربية.

 

الطفرة النفطية كسرت احتكار الثراء وسعة الرزق من عوائل ورثت الغنى بحكم الإقطاع وقدرتها على إرسال أبنائها لدراسة الطب وغيره في القاهرة أو دمشق أو بريطانيا؛ فسافر كثيرون إلى الخليج وعملوا في مجالات عدة خاصة التدريس، فساعدوا عائلاتهم وأخرجوها من الفقر والفاقة، فتمكنت من تدريس الأبناء والبنات، وبناء البيوت وشراء الأراضي والسيارات.

 

أما نحن شعب فلسطين؛ فمع بعض المآسي والأمور السلبية التي رافقت التغيرات المذكورة، فقد كان الخليج متنفسا وملاذا لكثير من الأسر؛ بل إن العديد من القادة والرموز من شتى الفصائل الوطنية والإسلامية عملوا أو درسوا ودرّسوا في الخليج، خاصة الكويت، التي عاش أو عمل ودرس فيها شخصيات فلسطينية بارزة (غسان كنفاني وياسر عرفات وصلاح خلف وخالد مشعل والقائمة أطول من المقال).

 

كان الخليج يمتاز بكونه وحدة جيوسياسية واحدة رغم التقسيمات التي خطها قلم المستعمر الإنجليزي؛ فحين حاولت دول عربية إقامة أشكال من الوحدة السياسية أو الاقتصادية، لم تصمد أو لم تنجح ولم يبق سوى (مجلس التعاون الخليجي) استثناء عربيا فريدا؛ فأين هي الجمهورية العربية المتحدة (سورية ومصر) التي سبقت هذا المجلس بأكثر من عقدين؟ وأين الوحدة الليبيبة-التونسية؟ وأين (اتحاد دول المغرب العربي)؟ وأين (مجلس التعاون العربي) الذي ضم العراق واليمن ومصر والأردن فانفرط عقده بعد احتلال القوات العراقية للكويت في 1990؟

 

كل هذه المحاولات الوحدوية سواء على أسس سياسية أو عسكرية أو اقتصادية تفرقت أيدي سبأ، وبقي مجلس التعاون الخليجي صامدا، مع أنه لم يبلور اتحادا سياسيا، ولا استطاع إصدار عملة موحدة، ولا غير ذلك، ولكن كما قلت فإن الإنتاج البرامجي المشترك أمر أفرح قلوب ملايين العرب وليس الخليجيين وحدهم، إضافة إلى قدرة الخليجيين على التنقل بين دولهم وإماراتهم بحرية دون تعقيدات الفيزا، حيث كان يقود الخليجي سيارته من الإمارات إلى السعودية أو من الكويت إلى السعودية، أو من قطر إلى السعودية وبالعكس.. كان هذا الحد الأدنى في زمن التمزق مرضيا. بقي الخليج محافظا على نوع واحد من الحكم دون الدخول في مهازل انتخابات واستفتاءات النتيجة المعروفة (99 أو 100%) وعلاقة الحكام بالمحكومين ظلت قائمة على الرضا عموما.

 

كانت صحراء الخليج القاحلة أفضل من مروج خضراء وحدائق ذات بهجة، ولفح السموم والقيظ أشهى من نسيم عليل وهواء منعش لكثير من الطامحين بفرصة، أو الفارين من ظلم لحق بهم في بلادهم. الخليج هو أصل العرب من قحطانيين وعدنانيين…والخليج ظل فيزيائيا بعيدا عن استعمار أوروبا المباشر… والخليج لم يلجأ إلى إدعاءات كاذبة في علاقته بأمريكا بل كان صريحا منسجما مع نفسه.

 

ليست الصورة رومانسية تماما؛ فهذا معروف، والكلام كثير في هذا الشأن، منه أن حجم الإنجازات أقل من كم الثروات الهائلة من عوائد النفط، وأن جبالا من الأموال أهدرت في أبواب مدمرة، كدعم صدام في حربه مع إيران، ثم تمويل تدمير جيش صدام ونظامه… كما أن الخليج لم يوسع دائرته ليتقوّى بكتلة بشرية ضرورية كضم اليمن أو العراق، أو حتى تجنيس البدون أو عدد من المقيمين الوافدين ولو بشروط صعبة. ونظام الكفيل ليس عصريا وتعتريه سلبيات كثيرة، وظل الخليج رهن بورصة أسعار النفط ولم يحقق الاكتفاء الذاتي وغلبت عليه النزعة الاستهلاكية… وغير ذلك مما يطول الحديث فيه.

 

تغير الخليج وما زال يتغير بعكس ما يُشتهي؛ وتبخرت الأحلام، وصارت الإنجازات-ولو سلمنا بتواضعها-في مهب الريح، بما في ذلك مجلس التعاون الخليجي ودرع الخليج
تغير الخليج وما زال يتغير بعكس ما يُشتهي؛ وتبخرت الأحلام، وصارت الإنجازات-ولو سلمنا بتواضعها-في مهب الريح، بما في ذلك مجلس التعاون الخليجي ودرع الخليج
 

ولكن لو وضعنا كل السلبيات والخلل في كفة، وما كان عليه حال الخليج من مزايا وحسنات نسبية في كفة أخرى، لرجحت الكفة الثانية بلا شك… فقط لنتذكر كيف كان الحال بعد حرب الخليج الثانية في 1991 حين اكتظ الأردن بالفارين أو المنتهية إقاماتهم قسرا وما كان لهذا من آثار نفسية واقتصادية وسياسية في غاية السوء.

 

لقد تغير الخليج وما زال يتغير بعكس ما يُشتهي؛ وتبخرت الأحلام، وصارت الإنجازات -ولو سلمنا بتواضعها- في مهب الريح، بما في ذلك مجلس التعاون الخليجي ودرع الخليج، وانقسم الخليج على نفسه، وصار طرفا في نزاعات عربية-عربية أو عربية-إسلامية… السياسة تتغير بما يؤلم ويحز في النفس، ومعها تتدهور الحالة الاقتصادية، مما ينعكس سلبا على سائر العرب، الذين وإن زعم زاعم أن حجم استفادتهم من الخليج أقل من الآخرين، ولكن هذا (الأقل) كان يضمن لهم عيشا كريما، ويقيهم ذل السؤال وركوب البحار نحو بلاد الفرنجة.

 

حتى الدراما والفن الخليجي لم تعد تمتع المشاهد؛ فحين كبرنا قليلا، بعد (افتح يا سمسم) كنا نرى (خالتي قماشة)، وأمتعنا شجن طلال مداح في (زمان الصمت).. ثم رأينا وسمعنا ما لا يسرنا ولا يمتعنا.. فالمرض عمّ سائر الجسد سياسيا واقتصاديا وفنيا. فهل يعود لنا خليجنا الذي عرفناه؟ أم سيظل المشهد ينتقل من كآبة إلى أخرى ومن وضع مؤسف إلى وضع محزن؟

 

مهما كان لنا من ملاحظات ومآخذ وأسباب غضب، يجب أن ندعو الله-سبحانه وتعالى- أن يقي الخليج شر ما هو آت، لأن هذا الشر أولا يطال أشقاء لنا، لو تتبعنا أصولنا لوجدنا أنفسنا وهم من ذات القبيلة والأرومة، وثانيا لأن الشر ستنعكس آثاره علينا وسنعاني منه. اللهم سلّم.. وأعد لنا رؤية الخليج كما رأيناه في صغرنا وأحلامنا البريئة الجميلة.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.