شعار قسم مدونات

رسائل الأحزان.. حينما نفقد الشعور!

مدونات - الحزن

في بلادي، كل شيءٍ على غير عادته، فلا الشمسُ تشرق بهدوء، ولا القمر يضيء فينير الظُّلُمات. والأشجار لا صوت لها سوى الوقوف شامخة تأبى الانحناء، والعصافير تغرد بموسيقى حزينة، حتى البحر ما عادت أمواجه تُلاطم بعضها البعض أتساءل: هل لها أرواح تشعر بما يدور حولها؟ أم هي جمادات لا نفس ولا روح فِيها؟، الأمر يبدو غريبًا بعض الشيء. لماذا أحياناً تكون في قمة عنفوانها تزمْجَرَ وترعد؟ وأحياناً تكون هادِئة هدوء المقابر في ليلة حالكة الظلام؟

في بلادي ما عاد الأطفال يلهون ويلعبون، ما عادت هذه الأشياء تُعْنيهم، ترى طِفلًا صغيراً يحمل هما لرجلٍ جاوز الستين عامًا! هل في بلادي يكبر الطفل قبل أوانه؟ أم هي الحرب التي قتلت فيهم كل شيءٍ قابل للحياة. ما أقسى الحرب تفرق بين الأرواح، وتباعد بين الأجساد، وتعيق رؤية الأحباب. في بلادي، تواسى الآلام نفسها، وتخرج الجراح من مهدِها وتصبح الدموع محببةً إلى النفس، ونرث الأحزان فتصبح طيوراً تطير حولنا، ونعيش على ذكريات الماضي وأوجاع الرحيل؛ فتصبح للبسمة طريقًا شاقاً للخروج إلى عالم الحياة. في بلادي، رائحةُ الآلام في كل مكان والدموعُ متحجرة في العيون، كل شيء صامت لا لعجزه عن الكلام، ولكن لأن الصمت أفضل وسيلة للدفاع حين تُشيع الكرامة، العروبة، والأخوة. الكل يداعب جرحه! فهذا فقد ابناً وذاك أخًا، كل شيءٍ خَاشِعاً حتَّى الموتى! رائحة الأحزان تملأ بلادي، والآهات قدرها أن تلد بيننا. أدْمنّا كثيراً من الأشياء التي لا تنفك عنّا، بل أصبحت تُعطي مدلولاً واحداً رغم التناقض بينهن، فلكَ أن تتخيل أن أحاسيسنا ما عادت تفرق بين الأمور البديهية. يبدو أننا نعيش في عالم ما عاد لنا أن نتعرف على مشاعرنا، هل وصلنا إلى الجنون من حيث لا ندري؟ أم هناك من يريدُ منّا أن نفقد أغلى يملكه المرء؛ وهو الإحساس بوجوده؟

في بلادي، الموتُ لا يألفُ إلا نزع الأرواح، فكيف لنا أن نتعايشَ مع من يسلُبها الحياة ويضعها في عِدَادُ الموتى حين يكون الموت لنا حياةً جديدة، تتلاشى أمامنا هيبةُ الموتِ وطغيانه.

في بلادي، أرى هذا الشيخ العجوز واضعًا يده على خده ويبتسم للموت. أصبح الموت شيئاً مألوفاً، والدموع شئياً محبوباً. الشوارع تحنُّ لأجسادٍ لامستها فأعطتهم دِفْئًا، النساء هُنا عجزت عن ولادة الأطفال، أصبحت تلد الآلام، وتكبر شيئًا فشئياً، فتنساب الدموع، ويشيب الرأس قبل الأوان. يا الله متى نُشيع الآلام والأحزان إلى المقابر؟ هناك من قدره أن تهرب الأحزان منه، وتغتصب الأفراحُ أركانَه وجوارحَه، وتُعانق دموعه وجنتيه؛ لكن في بلادي؛ ترقص الآلام على أجسادنا. في بلادي، لا فرق بين مقاوم، وسياسي، سوى أن الأول يقدم أشلائه، والثاني يحصد النصر، معادلة قد تبدو متماهية لكن في حقيقة الأمر، الأمر بينهم شاسع. في بلادي تُجبرنا الحرب أن نشيع بعضنا البعض، فمن ترى الآن صورته معلقةً على الجدران كان بالأمس يحمل رفيقا له؛ أصابته قذيفة صاروخية سقطت على منزله، لم تُبْقي منه إلا أجزاء متناثرة من جسده الهزيل، وتكون حصيلة هذه القصة المأساوية خبراً على الشريط الإخباري لا تتجاوز كلماته عدد أصابع اليد الواحدة.

الاختزال هو ما يمكن أن نصف به الواقع الأليم الذي نعيشه، ماذا يعني أن تضرب قرية، أو مدينة بالكيماوي، أو القنابل العنقودية المحرمة دولياً، ليخرجَ مَسْئُولًا أحمقاً يَغُضُّ الطَرفَ عن كل هذه الجرائم التي تحرك ضمير أقسى قلب، ويتحدث عن ضرب (المجموعات الإرهابية) بزعمه. لكن حقيقة الأمر الضحايا هم النّساء، والأطفال، والشيوخ الركع. في بلادي، لكل شهيد عالمه الخاص، وبعد استشهاده تصبح القصص مُتشابهة تشابه الدماء المتناثرة في الطرقات والحواري، إذ لا جديد سوى نوعية القتل فهذا قتل بقناصٍ أرداهُ قتيلاً مدرج بدمائه وذاك وقعت قذيفة في بيته قضت على عدد من أفراد عائلته. هكذا يرحلون ويتركوننا نسابق العبرات ونعشق دموعنا كي لا ننسى رحيلهم، وننسج حياتنا على ذكراهم فتصبح رائحتهم أنفاسنا.

في بلادي، الموتُ لا يألفُ إلا نزع الأرواح، فكيف لنا أن نتعايشَ مع من يسلُبها الحياة ويضعها في عِدَادُ الموتى حين يكون الموت لنا حياةً جديدة تتلاشى أمامنا هيبةُ الموتِ وطغيانه؛ فيصبح للموتِ مذاقً خاص، وتطير أرواحنا للبحثِ عنه في كل مكان بعد ما كانت تتوجّس منه. هناك من يهرب من الموت وهناك من يشتاق لرائحته. إنها المُتناقِضات في زمن اللاّجدْوى.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.