شعار قسم مدونات

الأخلاق والحرية (3)

blogs - human
"الأخلاق بما أنها سُلطة، فهي -بالتعريف- مناقضة للحرية" – الجزء الثاني.
"الفعل الأخلاقي الحُر هو مجرد فكرة جميلة لا وجود لها على أرض الواقع "-الجزء الأول.

كان مدخلنا إلى الحرية في علاقتها بالأخلاق هو الحكم على الفعل الأخلاقي، من خلال مبدأ التقييم، فقد بدأنا بالتساؤل عن قيمة ومعنى الفعل الأخلاقي، وناقشنا فرضية أن يستمد الفعل الأخلاقي قيمته ومعناه من الحرية، ولكننا انتهينا إلى النتيجة المؤسفة التالية: الحرية نفسها غير ممكنة في وجود الأخلاق كسلطة آمرة، ومن ثم فإن الرهان على الحرية كمعيار لتقييم الأخلاق ينتج شكلاً من التناقُض.

الحرية الذاتية كانت وما تزال محل نقاش علمي وفلسفي هل هي موجودة أو ممكنة أو لا. أما الحرية الاجتماعية والسياسية فهي أمر نسبي تبعاً لاختلاف المجتمعات والتاريخ.

في هذا الجزء سنفترض الحرية أولاً، أي سنبدأ من الإنسان الحر كافتراض مثالي، لا لكي نقول إن هذا الإنسان هو الاستثناء الذي يُمكنه أن يعطي المعنى والقيمة للفعل الأخلاقي، وإنما لننظر ونحلل كيف سيواجه هذا الإنسان سؤال الأخلاق، وأهم منه سؤال الحرية نفسها.

وقبل أن نستمر، ينبغي أن نميّز بين مجالين للحرية. المجال الأول هو المجال الذاتي (أو الداخلي) والذي يتحدد بالوعي الذاتي، أما المجال الثاني فهو المستوى الاجتماعي (أو الخارجي) وهو المجال الذي يشمل الآخرين وجميع أشكال السلطات المادية والمعنوية الموجودة خارج نطاق الذات.

وقد يبدو للوهلة الأولى أن هناك انفصال بين المجالين، ولكن في الواقع، وبحكم وجود الذات/الفرد في المجتمع، فإن الوعي الذاتي هو ليس كذلك، أي ليس ذاتياً، إلا بالقدر الذي تكون به الذات حرة. ويمكن النظر إلى الحرية على أنها مقياس لمدى انفصال أو استقلال الوعي الذاتي داخل المجال الأوسع الذي يوجد فيه الفرد.

الحرية الذاتية كانت وما تزال محل نقاش علمي وفلسفي هل هي موجودة أو ممكنة أو لا. أما الحرية الاجتماعية والسياسية فهي أمر نسبي تبعاً لاختلاف المجتمعات والتاريخ.

على أن هذا التمييز هو تمييزٌ مفهوميٌ ذهني مهمته الأساسية هي أن يساعدنا على التفكير. أي ليس بالضرورة أن هُناك ما يقابله في الواقع. فنحن نقيم هذا التمييز بين المجالين الذاتي الداخلي والاجتماعي الخارجي للحرية ليس لأن هُناك انفصال فعلي على أرض الواقع بين هذين المجالين يملي علينا هذا التقسيم، وإنما لأننا نرغب في ذلك الانفصال ونريده. كما أن الحرية بشقيها الذاتي والاجتماعي هي دائماً رغبة قبل كل شيء، أي هي فكرة نتمنى أن توجد وأن تتحقق.. أمرٌ نسعى له ونريده. أما إمكانية وجود وتحقُّق هذه الفكرة فيحددها الواقع والتاريخ.

نعود لافتراض الحرية بالمعنى الذاتي (الحرية الداخلية). النص التالي، يعرض هذا الافتراض كمأساة مجيدة. وسأقوم بمناقشته وتحليله بعد ذلك.

* إن سؤال الحرية الأصعب ليس هو كيف نحصل عليها، بل ماذا نصنع بها. هذا الكلام قد يبدو قلباً للأمور في لحظة نعاني فيها غياب الحرية بالمعنى الاجتماعي والسياسي في مجتمعاتنا، مثلما نعاني غيابها بالمعنى الذاتي نظراً إلى الضغط الفكري على الذات بواسطة الثقافة والتاريخ والواقع المادي. ولكن هناك لحظة، يمكن أن نتصور فيها قلب الأمور بحيث تصبح الحرية الذاتية أعلى وأكبر من الحرية الاجتماعية. وحينها سنواجه سؤال الأخلاق ضمن السؤال الأكبر "ماذا نصنع بهذه الحرية؟"

لقد تعلّمنا أن ننظر إلى الحرية كغاية بعيدة المنال، لا يمكن بلوغها إلا بشِق الأنفس. ولكن هذا الكلام صحيح من الناحية السياسية والاجتماعية فقط. فكريّاً يمكن للإنسان -نظرياً- أن ينال الحرية بسهولة، طالما أنه ليس مقيداً بالمجتمع والآخرين. فالمفارقة العجيبة هي أن الفرد يمكنه تحطيم القيود السجون والخروج منها، بينما المجتمعات يمكن أن تبقى في الأغلال والسجون لقرون وقرون. والفرد عندما يحطِّم أغلاله يواجه سؤال الحرية الحقيقي لأول مرة.

الإنسان الحر يقف وجهاً لوجه مع القدر والمصير، يجد نفسه مسئولاً بشكل تلقائي عن حمل أمانة وجوده كله، طبيعة وجوده هي التي تفرض عليه ذلك، وكأنها تعبير عن الآية القرآنيّة "إنّا عرضنا الأمانة على السماوات والأرض والجبال فأبين أن يحملنها، وحملها الإنسان إنه كان ظلوماً جهولاً."

الإنسان، وليس المؤمن ( أو العقائدي) الذي يعيش داخل أُطر دينية أو عقدية، بل الإنسان الواقف خارج الأُطر الدينية والعقدية، والتي خرج عليها بحثاً عن الحرية، قد يجد نفسه مواجهاً بتحدي صناعة تصوراته وقيمه وأخلاقه بنفسه هذه المرة.. أن يعيد تركيب صورة العالم، بل أن يعيد تركيب ذاته، أن يصنع مصيراً لنفسه في هذا العالم الجديد. هذا الإنسان، حتى لو كان ملحداً، قد يجد نفسه في مواجهة سؤال الأمانة في أشد أشكاله، وكأنه يقف الآن أمام الإله ليختار بنفسه هذه المرة أن يحمل الأمانة، أو أن يسقط في العدمية ويفقد هويته وإرادته ويصبح جزءاً من هذه الأشياء، جزءاً من الأرض.. وقطرةً في محيط من العبث واللا-معنى.

-ماذا ؟ هل قلت ليختار بين المعنى والعبث؟
هكذا إذاً، فإن سؤال الاختيار ذو الطابع الأخلاقي قد يبقى يلاحق الإنسان حتى حين يعتقد أنه قد تحرر كلياً! وكل حرية يعقبها اختيار لا يُعوَّل عليها.

السجون الاجتماعية والثقافية لها جُدران تحد من حرية الإنسان، ولكنها تمنحه الدفء والأمان، وتعفيه من تحمُّل تبعات الحرية ومسئولياتها خارج الأسوار، في الصحراء الشاسعة والموحشة للواقع. (هذا يشير إلى تبادل المصالح كما ذكرناه في المقال السابق، طبعاً تحت غلاف معنوي وسحري).

داخل السجون هُناك إجابات واضحة محددة لكل سؤال، الطريق واضح ومحدد من البداية إلى النهاية، العالم متماسك كما ينبغي لجدار إسمنتي لسجنٍ أن يتماسك، وليس هناك حدث أو واقعة إلا ولها معنى ومغزى، ليس هناك ثغرات ولا صُدف ولا عبث. خارج السجون هناك مسئولية تفسير العالم، صناعة الإرادة، صناعة المعنى، صناعة القيم، وصناعة المصير، يتحمَّلها الإنسان الذي أراد الحرية. "انتهى"

بطل مأساوي! هذا هو ما سنحصل عليه من الافتراض المثالي الجميل للحرية. وبكل تأكيد فإن العالم ليس بهذه الحدّية، إما أن تكون بطلاً مأساويا أو أن تكون من الودعاء الطيبين الذين يمشون منحدرين مطرقين ويرثون الأرض في نهاية المدى، أو كما قال "أمل دنقل" في قصيدته التي عنوانها كلمات سبارتاكوس الأخيرة. هُناك منطقة وسطى، وهي منطقة السعي نحو الحرية، الحرية كشيء رائع نسعى له ولا نملكه.

الإنسان عندما يضع نفسه كمعيار وكمرجع للتقييم يكون قد تجاوز جميع الأشياء التي يقيّمها.

وبعيداً عن هذه الروح الوجودية، نعود لنتساءل من جديد ببرود العقل التحليلي ماذا ستصنع الذات التي قلبت الأمور رأساً على عقب وأخذت لنفسها جميع السلطات، بعد أن خرجت من جميع الأُطر وحطمّت كل الجدران، وجعلت بذلك الأخلاق، ضمن أشياء أخرى كثيرة، مجرد تابع للحرية؟

في اللاهوت هُناك سؤال معروف مفاده هل الخير هو خير في ذاته، أو هو كذلك لأن الإله قد أمر به؟ وإذا كان العقل الإنساني قد طرح هذا السؤال التقييمي بشأن الأخلاق في تعلقها بالمرجعية المتعالية. فماذا يكون حال هذا العقل مع قيمة الأشياء التي صنعتها أو أمرت بها سُلطة الذات الفانية.

لنتصور أنفسنا ونحن نتساءل: هل الخير خيرٌ في ذاته، أم هو كذلك لأن الذات الإنسانية الحرة أرادت ذلك؟ إن هذا السؤال يبحث عن، وينطوي على نفس التقييم الذي يعبر عن السؤال اللاهوتي: من أين يستمد الخير قيمته. ولكن هذه المرة مع فارق كبير، المعادلة ليست بين الأمر الإلهي والخير في ذاته، وانما بين إرادة الإنسان الفاني والخير في ذاته.

ولكننا في اللحظة التي افترضنا فيها الحرية بهذا المعنى المأساوي، فقد ذهبنا -مع نيتشه- إلى ما وراء الخير والشر وما وراء الأخلاق، وأيضاً ما وراء العقل وربما ما وراء الإنسان نفسه. أي أن الإنسان عندما يضع نفسه كمعيار وكمرجع للتقييم يكون قد تجاوز جميع الأشياء التي يقيّمها.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.