شعار قسم مدونات

فيسبوك يفضح انقلابيي "الحداثة المعطوبة"

فيسبوك
لنشطاء فيسبوك المغاربة قدرة كبيرة على التحول إلى خبراء متعددي التخصصات.

وفي فترة زمنية وجيزة لا تتعدى الأسبوع، تابعت كيف تحولوا من علماء في النفايات الصلبة يتسابقون في كشف مخاطر 25 ألف طن من النفايات الصلبة استوردتها شركات إسمنت محلية من إيطاليا، إلى إبراز مهاراتهم في تحليل اعتداءات "نيس" الإرهابية، والتفوق على ضيوف قناة فرانس 24 في رصد الثغرات الأمنية التي لم تفلح المخابرات الفرنسية في سدها منذ اعتداءات "شارلي إيبدو" إلى اليوم.
 

وما كادت الدماء تجف من أرصفة الشريط السياحي بمدينة نيس حتى غيروا وجهتهم نحو تركيا، وهذه المرة صاروا منظرين في العلوم السياسية وعالمين بخبايا الانقلابات العسكرية وما الذي قد يجعلها تنجح أو تفشل.

لكن لم يسبق لي يوما أن تابعتهم وهم يتبادلون اتهامات التخوين والعمالة مثلما حدث في انقسامهم بين مؤيد للزعامة الأردوغانية ومعارض لسياساتها.
 

ما أثارني حقا أن أردوغان مثلما نجح في هزم خصومه الانقلابيين، استطاع أن يبعثر أوراق الاصطفافات الأيدولوجية الكلاسيكية  في المغرب 

ومنذ أن تخلى الإسلاميون المغاربة عن التشكيك في خلفيات الاعتداءات الإرهابية، والذي كاد أن يعصف بشرعية عملهم الحزبي سنة 2003، بعدما طالب خصومهم العلمانيون بحل حزب العدالة والتنمية الذي كان حينها في صفوف المعارضة البرلمانية، صاروا أقرب إلى مواطنيهم اليساريين والعلمانيين في التنديد بجرائم أمراء الدم.

لكن مواقع المسؤولية الحكومية التي وصلوا إليها فوق صهوة الربيع العربي سنة 2011 خلقت مجالات أخرى لتبادل الاتهامات بينهم وبين خصومهم السياسيين والأيدولوجيين.
 

قد لا أبالغ إن قلت إن المحاولة الانقلابية الفاشلة في تركيا، كانت قنبلة فاقت في وقعها حكايات نفايات إيطاليا التي أرغم فيها الفيسبوكيون حكومة العدالة والتنمية على إلغاء صفقة 25 ألف طن من المادة الأولية التي تستخرج منها معامل الإسمنت المحلية وقودها الأحفوري.
 

ومنذ الساعات الأولى لسيطرة الانقلابيين على مبنى الإذاعة والتلفزيون وسعيهم الحثيث لاعتقال رجب طيب أردوغان أو اغتياله، اندلعت حرب حامية الوطيس في الفضاء الأزرق، وفيها يتبادل معسكر مناصري أردوغان قذائف التدوينات مع المعسكر الذي ظل يتمنى لو يحزم أرودغان حقائبه ويرحل بعد الانتخابات التي لم يحصل فيها على الأغلبية المطلقة.

ولما عاد ليبسط سيطرته التامة على البرلمان التركي في الانتخابات السابقة لأوانها؛ تمنوا لو كان الانقلاب خلاصهم الأخير من رجل يقول بعضهم إنه ذو نزوعات سلطانية، ويرى آخرون أنه ينعش بنجاحاته، نفسيا ومعنويا، إخوانه وخصومهم في حزب العدالة والتنمية المغربي.
 

لكن هذا الانقسام ليس أيدولوجيا، وتركيبة المعسكرين ليست متجانسة، وقد أثارني حقا أن أردوغان، ومثلما نجح في هزم خصومه الانقلابيين، استطاع أن يبعثر أوراق الاصطفافات الأيدولوجية الكلاسيكية هنا في المغرب؛ لم يكن هناك إسلاميون في مواجهة يساريين، أو من يطلقون على أنفسهم حداثيين.
 

ففي معسكر المتحمسين لعودة أردوغان آمناً من مخبئه إلى مكتبه الرئاسي، اصطف إسلاميون معتدلون وآخرون راديكاليون إلى جانب نشطاء من اليسار والتيار العلماني بتلاوينه الاشتراكية والليبرالية وما تبقى من شيوعيين. أما الجهة الأخرى من أرض هذه "المعركة المقدسة" فتكتل فيها خليط من نشطاء أحزاب تعارض الحكومة التي يقودها حزب العدالة والتنمية في البرلمان، وهي تتمنى لو أنها تستطيع طرده من كراسي الحكومة في الانتخابات التشريعية التي سيشهدها المغرب في السابع من أكتوبر العام الجاري.
 

لكن قضية المحاولة الانقلابية التركية كانت هذه المرة ذات ميزة وطعم خاصين جعلاها محط متابعة الناس العاديين في المنازل والمقاهي والأسواق؛ فمسلسلات مثل "حريم السلطان" و"سامحيني".. تحظى بنسب متابعة عالية، وتكاد بعض التلفزيونات العمومية تتخصص في عرض هذه المسلسلات التي ربطت علاقة إنسانية قوية بين الممثلين الأتراك وجمهورهم المغربي.

وربما بسبب التداخل بين التمثيل والسياسة؛ صدق بعض الفيسبوكيين الداعية فتح الله غولن حين قال إن أردوغان قام بمسرحية الانقلاب ليحكم قبضته على السلطة.

جعلني علماء فيسبوك المغاربة وخبراؤه أطمئن إلى أن عقلاء السياسة وصناعة الرأي العام في المغرب لا يقبلون بإصلاح يأتي على متن الدبابات

وأكاد أزعم أن التشويق كان في هذه المواجهات الفيسبوكية أكثر إثارة منه فيما بدأت تنقله فيما بعد القنوات الفضائية من تطورات الوضع التركي، وقد كدت أعتقد في لحظة ما أن المحاولة الانقلابية قد وقعت في المغرب وليس في تركيا.
 

وعلى كل حال فهي عادة مغربية قديمة، ففي زمن الصراع الأيدولوجي المحتدم منذ سنوات، كان الاشتراكيون يسخرون من مواطنيهم الشيوعيين بقولهم "إنه حين يسقط المطر في العاصمة السوفياتية موسكو يخرجون مظلاتهم في الرباط"، فقد كان الساسة المغاربة دائما مرتبطين بهذا المحور الدولي أو ذاك.

لقد جعلنا أردوغان ومحاولة الانقلاب عليه تبدأ مبكرا، هنا في المغرب، حرب الانتخابات التشريعية التي ستجري بعد شهرين. وأعتقد أنه لو نجح الانقلاب لزعم خصوم حزب العدالة والتنمية المغربي والمتعاطفين معه أيضا أنها رسالة لإسقاط إسلاميي المغرب من الحكومة بعدما أسقط إخوانهم منها في مصر وتونس؛ أما وقد فشلت جماعة العسكر في أنقرة فقد أمطرنا إخواننا الإسلاميون ورفاقنا العلمانيون بوابل من تدوينات التغني والعشق في حضرة انتصار الديمقراطية والشرعية.
 

ومثلما ينتشي أردوغان هذه الأيام بعودته إلى قصره الرئاسي، جعلني علماء فيسبوك المغاربة وخبراؤه أطمئن إلى أن عقلاء السياسة وصناعة الرأي العام في المغرب لا يقبلون بإصلاح يأتي على متن الدبابات.
 

وبعد أن قالت الحكاية المتداولة بأن وسائل التواصل الاجتماعي هي من أفشل المشروع الانقلابي وسمح لأردوغان بأن يعبئ من مخبئه شعبه وما تبقى من جيشه، صرت أظن أيضا أن فوائد فيسبوك هنا في المغرب لا حصر لها، وليس أقلها أنها كشفت أن بيننا ديمقراطيين حداثيين كادوا يقيمون حفلات انتشاء على شرف دبابات وطائرات اغتالت إرادة شعب وقصفت صناديق اقتراع ما زالت حتى الآن تبدي سخطها من أحزاب "الحداثة المعطوبة" على حد تعبير الكاتب والشاعر الكبير محمد بنيس.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.