شعار قسم مدونات

هل نتفاضل بأخلاقنا أم بقدراتنا؟.. هكذا يجيبنا روسو

blogs جان جاك روسو
في هذا المقال سأواصل استكشاف الإنسان في فكر جان جاك روسو، بعد أن تناولت هذا الموضوع في مقالة سابقة بعنوان: دين الفطرة.. كيف استكشف روسو غموض الإنسان؟ ومسايرة لنفس الطرح، سأتناول نفس المفهوم في نظر روسو، لكن هذه المرة تتعلق بالإنسان في الحالة الطبيعية، هذه الحالة افترضها روسو لوضع المقارنة بين الإنسان المتوحش والإنسان المدني، بهدف تسليط الضوء على هذه الحالة البدائية للبشر.

 

وسأعتمد على مؤلف روسو الشهير: "خطاب في أصل التفاوت وفي أسسه بين البشر" والذي يمثل جواب روسو على السؤال الذي طرحته أكاديمية ديجون سنة 1755: ما أصل التفاوت بين البشر؟ وهل يجيزه الناموس الطبيعي؟ انطلاقا من هذا السؤال حاول روسو افتراض الحالة الطبيعية، وتحديد الإنسان الذي كان يعيش في هذه الحالة، وانطلاقا مما افترضه روسو سأحاول استكشاف هذا الإنسان.

ذهب روسو في كتابه خطاب في أصل التفاوت وفي أسسه بين البشر إلى التأكيد على أن الإنسان يمكن أن يكون إنسانا دون الحاجة إلى الفلسفة، ويبرر ذلك باعتبار أن كل واجباته نحو غيره من البشر لم يتعلمها من الفلسفة، إذ أنه لا يستطيع أن يصد دافع الشفقة في داخله، كما أنه لن يلحق الأذى بأي كائن حساس إلا في الحالات التي يكون فيها مضطرا لحفظ بقائه.

يرى روسو بأن القانون الطبيعي يخص الإنسان، أما الحيوان فهو لا يعي هذا القانون، والمسألة المشتركة بين الإنسان والحيوان هي الحساسية، لكن الإنسان يتفوق عليه بالعقل، وبما أن صفة الحساسية مشتركة بين الإنسان والبهيمة، كان لكل منهما الحق في ألا يسيء الآخر معاملته على غير جدوى أبدا.

يعتقد روسو بأن الفكر هو الذي يفسد الحواس، أما الإرادة فتظل تتكلم حتى عندما تسكت الطبيعة، إذ أن بعض الحيوانات قد تموت جوعا رغم أن الطعام موفر لها

يؤكد روسو على أنه من الواجب دراسة الإنسان، ودراسة ملكاته الطبيعية وتطوراتها المتعاقبة، من أجل أن تتضح التمييزات بين ما صنعته الإرادة الإلهية وما صنعه الإنسان، واعتبر روسو في هذا الصدد أن الإنسان عرف نوعين من التفاوت: تفاوت طبيعي قائم على فارق السن والصحة وقوى الجسد، والنوع الثاني هو تفاوت أخلاقي مبني على تراضي الناس، وهو تابع لنوع من التوافق، وهذا النوع الأخير يستفيد منه البعض على حساب البعض، كأن يكون أصحاب تلك الامتيازات أوسع غنى وأعلى شرف أو أشد قوة، أو أن يكونوا في وضع يمكنهم من فرض الطاعة على من دونهم.

حاول روسو أن يفترض الحالة الطبيعية التي كان عليها الإنسان قبل أن يصل لمرحلة المجتمع، واعتبر في هذا الصدد بأن الإنسان كان حيوانا مثل باقي الحيوانات، ونقطة الاختلاف تتجلى في كون الإنسان يبقى صالح للتكوين، وهذا الإنسان يولد ببنية جيدة يرثها عن أبيه، والتي تمكنه من حفظ بقائه، ويقارن روسو بين الإنسان المتوحش والإنسان المتحضر، وكتب يقول:" هب الإنسان المتحضر وقتا لحشد مختلف آلاته من حوله، لاشك أنه يسهل عليه التغلب على الإنسان المتوحش، ولكنك إذا أردت أن تشهد قتالا على مزيد من التفاوت، ضع الرجلين وجها لوجه وهما عاريان، فلا تلبث أن ترى السبق الذي يكسبه من كانت جميع قواه في متناوله دائما، دائم الأهبة لمواجهة الحوادث، حاملا دائما كيانه معه برمته -لو جاز هذا التعبير-".

أشار روسو إلى أن العاهات الطبيعية كالطفولة والشيخوخة والأمراض على اختلاف أنواعها تعتبر بمثابة الأعداء الأشد هولا من الوحوش بالنسبة للإنسان في الحالة الطبيعية، ولعل الطفولة والشيخوخة مشتركة لدى الإنسان والحيوان، لكن الأمراض يرى روسو بأنها حكر على الإنسان الذي يحيا في المجتمع، ذلك أن الإنسان في الحالة الطبيعية تعالجه الطبيعة كما تعالج سائر الحيوانات على عكس الإنسان المدني الذي يحتاج غالبا إلى الأدوية والطبيب.

بمجرد ما يدخل الإنسان إلى المجتمع يصير مُستعبدا، وتضعف قدراته الجسمانية، ويصبح بحاجة إلى ما يعوض قصوره البيولوجي، وطريقته المخنثة في العيش تكمل ما يصيب قوته وشجاعة من اضطراب. أما قوة الإنسان المتوحش أكثر من الإنسان المدني، وإذا كانت الطبيعة قد تعاملت مع الإنسان والحيوان معاملة متساوية، فإن كل ما يوفره الإنسان لنفسه من أسباب للراحة لا تزيد إلا في تفاقم فساده.

الإنسان المتوحش كان يعيش منفردا متعطلا ومعرض للخطر في أية لحظة، وهذا ما جعله يخفف من نومه، ويتشابه مع الحيوان الذي إذ يفكر قليلا ينام طوال الوقت الذي لا يفكر فيه البتة، ولا يفكر إلا في حفظ بقائه، وكل ما يمكن أن ينمي ملكاته الدفاعية والهجومية. ويقسم روسو حواس الإنسان المتوحش إلى قسمين: اللمس والذوق؛ ويكونان عنده في حالة من الخشونة القصوى من جهة، ثم السمع والشم؛ ويكونان عنده في حالة من اللطافة الكبرى من جهة أخرى.

 

يتميز الإنسان في نظر روسو بمَلكة التكامل، والتي من شأنها أن تنمي جميع الملكات الأخرى لو توفرت لها ظروف مواتية، هذه الملكة كافية في النوع الإنساني
يتميز الإنسان في نظر روسو بمَلكة التكامل، والتي من شأنها أن تنمي جميع الملكات الأخرى لو توفرت لها ظروف مواتية، هذه الملكة كافية في النوع الإنساني
 

هذا هو الإنسان الفيزيقي، أما الإنسان الميتافيزيقي الأخلاقي فروسو يرى بأن الحيوان ليس سوى آلة محكمة الصنع، وهبت له الطبيعة حواس حتى يتمكن من قيادة نفسه بنفسه، والحماية من كل ما يمكن أن يشكل خطرا عليه، وهذا ينطبق على الإنسان أيضا، والاختلاف بينهما يتمثل في كون الطبيعة تتحكم في الحيوان، بينما الإنسان يأتي أفعاله بصفته فاعلا حرا، ذلك أن البهيمة تقبل أو ترفض عن غريزة، بينما الإنسان يأتي ذلك بمقتضى فعل حر، لذلك يمتنع على البهيمة أن تخرج عن القاعدة التي سنت لها حتى لو كان لها نفع في ذلك، على عكس الإنسان الذي ينحرف عنها حتى لو كان له ضرر في ذلك.

يعتقد روسو بأن الفكر هو الذي يفسد الحواس، أما الإرادة فتظل تتكلم حتى عندما تسكت الطبيعة، إذ أن بعض الحيوانات قد تموت جوعا رغم أن الطعام موفر لها، بسبب كونها تحس أن ذلك الطعام لا يتلاءم معها، فلو فطنت وتناولت من الطعام لما ماتت، ويشبه روسو هذه الحيوانات بالبشر المنحلة أخلاقهم، فهم على حد تعبيره يستسلمون إلى الشطط الذي يسبب لهم الحمى والموت. وهكذا فحالة التفكير حالة تضاد الطبيعة، وأن الإنسان الذي يتأمل بعقله حيوان فاسد، وهذه النقطة هي التي أشار إليها روسو في جوابه على مسابقة أكاديمية ديجون، بناء على السؤال التالي: هل العلوم والفنون تفسد الإنسان؟ وقد أجاب روسو بالإيجاب، ويمكن القول أن هذا هو الجانب اللاعقلاني في فلسفة روسو.

يتميز الإنسان في نظر روسو بمَلكة التكامل، والتي من شأنها أن تنمي جميع الملكات الأخرى لو توفرت لها ظروف مواتية، هذه الملكة كافية في النوع الإنساني. ويتساءل روسو في هذا الصدد: لم الإنسان وحده معرض لأن يصير غبيا؟ وهل بالغباء يعود إلى الحالة البدائية؟ وهكذا فكل ما يكتسبه الإنسان من قابليته للكمال يخسره جراء الشيخوخة وغيرها من العوارض، ولهذا يرى روسو بأن القابلية للكمال هي مصدر شقاوات الإنسان، وهي التي انتشلته من وضعه الأصلي، وهذه الملكة قد تجعله متنورا كما يمكنها أن تضلله، ويمكن أن تملأه بالرذائل والفضائل، ويمكن أن تحوله إلى طاغية على نفسه وعلى الطبيعة.

لقد أوكلت الطبيعة أمر الإنسان المتوحش إلى الغريزة، أو بالأحرى عوضته الطبيعة ما ينقصه بملكات قادرة، عوض أن تقوم هي بسد ما ينقصه، وتسمو به بعد ذلك فوق هذه الملكات، ولعل الوظائف الحيوانية من بصر وشم هي أول ما سيبتدئ به، أما أن يريد ولا يريد أو أن يرغب ويخشى فتلك من العمليات الأولى التي تؤديها النفس إلى أن تظهر ظروف جديدة تسبب في تطورات جديدة.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.