شعار قسم مدونات

في نقد النزعات الأسطورية

blogs-نقد
(1)
انتهينا في المقال السابق إلى شكل من الحرية وصفناه بالمأساوي، وذلك لأنها حرية بلا إطار اجتماعي أو ثقافي، وبلا مرجعية. وهي بذلك أيضاً حرية أسطورية، لأنها غير مشروطة بتاريخ. فالتجريد يجعلنا نقترب من التفكير الأُسطوري. فالفرق بين الأسطورة والتاريخ هوأن الأُسطورة ليست محددة بزمان ومكان، بالطبع لأنها خيالية.

وحين نفكِّر في الاخلاق والحرية بشكل مجرد وبمعزل عن أي تاريخ نقترب من التفكير الأسطوري. فحينما نبحث عن أصل الأشياء خارج التاريخ، حينما نطالب الأخلاق أن تتعالى على التاريخ أو حينما نطالب الدين بذلك، وحينما نبحث عن شكل لا مشروط من الحرية وكأننا نريد وضع أنفسنا خارج التاريخ، هذه كلها نزعات أسطورية في الفكر.

إن وعي الإنسان الأول، صانع الأساطير الحقيقية، قد كان مدفوعاً بذات الفرضية الأنثروبولوجية حين عمل على أسطرة الأشياء، وتأسيسها بحيث تكون فوق التاريخ وخارجه

(2)
وعندما نفشل في ذلك، عندما نفشل في أسطرة الأخلاق/الحرية /الدين، أي عندما نكتشف طابعها التاريخي، نشعر بها وقد أصبحت بلا معنى. لماذا؟ لأننا بدأنا من فرضية أنثروبولوجية ضمنية مفادها " لكي تكون الأشياء ذات معنى، يجب أن تكون لا-إنسانية ولا تاريخية، أو يجب أن تكون غير مفسَّرة وغير مفهومة. السحري والخارق وحده هو الذي يحمل ويمنح المعنى"

ولذلك فإن كل تفكيك أو تحليل قد يبدو وكأنه عملية تخريبية. وهذا هو الشعور الذي شعرت به وأنا أكتب الأخلاق والحرية (1)، وشعر به -ربما بدرجة أسوأ- بعض الذين قرأوا المقال والأجزاء اللاحقة.

(3)
في الجزء الثالث قلنا إن ذلك البطل الافتراضي المأساوي الأُسطوري للحرية سيواجه عبء الحرية في أثقل أشكاله، وسيكون عليه أن يبدأ من جديد كل شيء. ابتداء من تحديد هويته، ثم ماذا يريد. وإذا افترضنا مجتمعاً كاملاً من الأبطال الأُسطوريين الأحرار، فسنجد أنفسنا أمام دورة جديدة للحضارة شبيهة بتلك الدورة التي بدأها الإنسان الأول.ش

الإنسان الحالي الذي دخل بالفعل عصر ما بعد الأخلاق وما بعد الدين، أو عصر "الما بعديّات" حسب تعبير الدكتور عبدالوهاب المسيري، وذلك بسبب الفشل في الحفاظ على المرجعية الأُسطورية-والتي يصفها المسيري بالمتجاوزة -بعد مرحلة النقد والتحليل والتفكيك، هذا الإنسان يبدو وكأنه في مرحلة ذلك البطل المأساوي الاسطوري للحرية، لولا أنه خاضع -في الشق الخارجي للحرية -للسطلة. ولكنه معرفيّا يقف في تلك النقطة.

إن أزمة المرجعية التي ستواجه هذا الإنسان الما-بعدي، إنسان ما بعد المرجعيات، الإنسان الحر تماماً، إله ذاته (الدين قد يسميه الذي جعل إلههُ عقله أو نفسه أو هوى نفسه)، سببها تلك الفرضية الأنثروبولوجية التي تجعل من السحري الخارق أو الأُسطوري أساس المرجعية والمعنى، والتي تحط من قيمة كل ما هو بشري.

العقل الانساني لم يستطيع التخلُّص من هذه الفرضية لأنها في الأساس كانت هي المحرك الخفي لهذا العقل في رحلته في البحث عن "الحقيقة"، عن أصل الأشياء، فالحقيقة أيضاً تنتمي إلى الفكر الأُسطوري كونها -بالتعريف- غير مشروطة بالتاريخ والمكان. وعندما واجه العقل حقيقة الحقيقة، اشتغلت الفرضية الأنثروبولوجية وقضت بأن لا معنى للحقيقة طالما أن العقل قد فشل في أسطرتها.

إن وعي الإنسان الأول، صانع الأساطير الحقيقية، قد كان مدفوعاً بذات الفرضية الأنثروبولوجية حين عمل على أسطرة الأشياء، وتأسيسها بحيث تكون فوق التاريخ وخارجه. كان يعبِّر عن الفرضية نفسها " يجب أن تكون الأشياء أُسطورية لكي تكون ذات معنى". وفيما نجح الإنسان الأول في مسعاه فشل "الإنسان الأخير" – التعبير لنيتشه- في ذلك.

لقد كانت مأساة العقل الانساني الكُبرى حين قرر في نفس الوقت " ما لا يُمكن عقله لا يُمكن قبوله"، واحتفظ -بطبيعة الحال- بالفرضية الأنثروبولوجية " ما ه وإنساني فهو بلا أساس وبلا معنى، الأسطوري وحده يعنى المعنى والأساس".

(4)
بالطبع لا ينبغي التراجع عن العقل وجميع مكتسباته ولا عن الحرية. مقال الأخلاق الحرية لم يكن-كما فهم البعض- دعوة للتراجع أو الاحتماء داخل الأُطر الدافئة للعقل اللا-نقدي، لقد كان ذلك مجرد تحليل وصفي ولا ينطوي على تفضيل للسجون مهما كانت دافئة وآمنة على العقل والحرية.

إن مهمة العقل لا تقتصر فقط على التحليل والتفكيك، وكذلك مهمة الحرية ليست النفي فقط. وإنما أيضاً التركيب وإعادة البناء والإثبات. وقبل ذلك يجب أن نتخلص نزعة الأسطرة تلك ومن الفرضية القائلة أن كل ما هو إنساني فهو بلا معنى وبلا أساس.

(5)
إن التخلص من تلك النزعة الأُسطورية يكون بالتفكير داخل فضاء تاريخي واجتماعي وثقافي محدد. العالم الاسلامي /الوطن العربي/السودان على سبيل المثال.

هناك ادعاءات بأننا أصبحنا كونيين، نعيش في عالم كوني لم يعد يعترف بالحدود والفوارق. ويتم مناقشة القضايا مثل قضايا الحرية والأخلاق أو الدين في أُفق كوني، ولكن هذه الكونية المزعومة هي تعبيرٌ عن النزعة الأُسطورية، كونها تضعنا خارج واقعنا وخارج تاريخنا الفعلي.

الفرد الكوني الذي ينتمي لهذا الأُفق سيكون هو النسخة السودانية مثلاً من ذلك البطل المأساوي للحرية، والذي يقف وحيداً في محيط غريب بالنسبة له، وهو غريب بالنسبة لذلك المحيط. وإذا كانت مجموعة وليس فرداً -مجموعة كونية- لا يختلف الأمر.

ولكن ولسوء الحظ، فإن الدعوة الى التفكير داخل الفضاء التاريخي الخاص يتصدرها ويتصدى لها الرجعيون أعداء التقدم، وللمفارقة أن هؤلاء كذلك أُسطوريون يعيشون خارج التاريخ بمعنى الراهن، ولا يعيشون في التاريخ الماضي الحقيقي وإنما في الماضي الأسطوري أيضاً.

ولذلك يتم تصنيف تلك الدعوات دائماً على أنها نوع من النكوص والردة عن طريق التقدُّم حتى حين تصدر من الاتجاهات الأخرى.

(5)
إن انفتاح العالم على بعضه قد أظهر أهم سمة في كل ثقافة وكل تاريخ، وهي النسبية. لقد أدركنا النسبية بفضل هذا الانفتاح، وهذه الكونية. ومعنى ذلك ليس هناك ثقافة تستمد معياريتها من خارج هذه النسبيات حتى أكثرها تقدماً، مع كل ما تحمله كلمة "تقدُّم" من إشكال في ظل اختلاف المعايير باختلاف الثقافات.

إن التفكير داخل الفضاء الثقافي للمجتمعات المحلية في العالم الإسلامي يعني أن ننظر الى التاريخ، تاريخنا الخاص كتطوُّر تقدمي، كحركة لها اتجاه وهذا الاتجاه معياري يشير نحو التقدُّم والترقي، وهذه المعيارية مستمدة من ثقافتنا في صورتها الأكثر رقيّاً، في الدين الاسلامي.

وذلك يعني قراءة الدين وتأويله ليس عن طريق العقلنة التي ستعني في النهاية التفكيك، ولا يعني في ذلك في الوقت نفسه بالطبع الارتهان الى الرؤية التقليدية، ولتلك السياجات الدوغمائية للفكر كما يسميها "محمد أركون" التي يجب علينا الخروج منها.

وإنما عن طريق قراءته – ككل دين- في سياق التطوُّر التقدمي لتاريخنا – كجزء من تاريخ الإنسان الكوني. وبهذا المعنى فإننا لا يجب أن نقيم "محكمة العقل والنقد" لكي نحاكم الدين ونصدر حكمنا بناءً على معايير الصحة و"الحقيقة" بالمعنى المعرفي، والأُسطوري بالتالي، لنعيد تجارب الغرب المأساوية مع الدين، ومع الأخلاق أيضاً.

وإنما علينا أولاً الارتقاء لمستوى هدي هذا الدين، ثم المواصلة والتقدم بعد ذلك في الاتجاه الذي يشير اليه. أو بعبارة أُخرى أن ننظر الى الدين كمنجز ومكتسب تاريخي لا ينبغي التراجع عنه تحت دعاوى معرفية بحتة.

إن محاولة العقل الأُصولي المعكوسة تسير في عكس اتجاه التطور، لأنها تريد من الماضي أن يستوعب المستقبل ويتجاوزه وليس العكس

علينا أن نمشي في هذا الاتجاه حتى لا نرتد عن الدين كقوة دافعة في اتجاه التقدم الإنساني. "الردة" ذلك اللفظ المشحون بالدلالات السلبية لكثرة ما أُستخدم بواسطة القوى الرجعية، تلك القوى المرتدة حقيقةً، كونها تعيدنا إلى الوراء في عكس اتجاه التقدُّم حتى بمقاييس الدين نفسه.

إنما المعنى الذي تعمدت أن استخدم في الاشارة اليه تلك الكلمة ذات الوقع الرهيب، هو الردة عن المسار التقدمي بالمعنى المعياري للتقدُّم والمستمد من الدين نفسه. وأعني بذلك أن نعود إلى مرحلة ما قبل (أو ما بعد) الدين وما قبل الأخلاق (ما بعد) الأخلاق.

بمعنى أن الإنسان المرتد المقصود هنا هو ذلك الذي يسير في عكس اتجاه التقدُّم بالمعنى الديني وكذلك وفي نفس الوقت عكس اتجاه التقدُّم بالمعنى العقلاني الحداثي.

وهُنا سنكون في اتجاه عقلانية (ولنقُل حداثة) منفتحة على الدين ومستوعبة له، وليس العكس كما يدّعي ويحاول العقل الأُصولي: الدين المستوعب للحداثة والعقلانية والمتجاوز لها. إن محاولة العقل الأُصولي المعكوسة تسير في عكس اتجاه التطور، لأنها تريد من الماضي أن يستوعب المستقبل ويتجاوزه وليس العكس.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.